
















اهلا أطفال الزيتون
قصة مختومة برسالة لِ مْعَلّمْتي، أتمنى أن تُقرأ بتمعّن!
عفيفة مخول خميسة_ معليا
حين تحاصر أذرع النار بلادي، وتصرخ من ظمأ أرضي... يُسمَع صدى الخواء في الخوابي! فنفهم أسباب الذرف الذي أتى على عيون المرضعات، وجفّف درّ بحار الزيتون فوق صدور التلال وبطون الروابي... لكنّنا نسمع أمواج أطيار السماء تصدح مغرّدة: "ما أضيقَ العيشَ لولا فسحةُ الأملِ!" وإذ ندلف إلى بيوت نفوسنا، نجدها قريبة من السماء خيمةِ الإيمان بالقدرة على تحريك الجبال!
النفس تشير علىّ بالتبرّد بمروحة من الأوراق القابعة في ركن التسويف. قريبًا من السطح وقعتُ على هذه الوصفة الممسوحة بزيت المحبّة. وكانت كافية لإطفاء الحريقين!
"بستان قلبي مشجّر بتشكيلة من قلوب ترشح طيبًا... وقد انغرسوا فيه قنّاصين مياومين على حراسته من غزوات النكد... ويلتزم قلبي بيته، عينًا على النافذة، وأُذنًا على الباب! وهذا تأكيد على "حكم القوي بالضعيف"! قلبي ضعيف حيال هؤلاء "الإرهابيّين"؛ حالما يلمح طيفًا متحرّكًا، أو يسمع خفق طرقة، يقف مرتعشًا يحتكّ بالزحام... فيحتلّ أقرب مقعد، يلزم الصمت لحظات، يمرّر ريشته بينها راسمة شبكة من خطوط المرور نحو مقاطعة تتّسع لجملة من أذرع رقيقة العناق... ومثلها سيقان مشدودة بالسباق...
مع انطلاق رحلة الجماعة لقطف الزيتون، ينطلق فرح الأطفال من عقاله... فيستظلّ الموسم برفوف عصافير تزقزق محلّقة أسرابًا تتنزّه في فضائه... وتختلط على السماء الأجنحة المهاجرة والمقيمة في سياحة موسميّة تتخطّى حدود الكروم. وما أرحب صدور الكروم وهي تسجّل مشاوراتهم وسجالاتهم حول صحّة قول الكبار "قلّة الرزق راحة"! وتتفهّم إجماعهم على أنّ الكبار لا يفهمون!
حمل الزيتون دوريّ. وعليه تكون العطلة مضمونة سنة الفيض، تليها سنة الشحّ (الراحة)، حيث لا فرصة "ولا من يحزنون"! بل يحزنون ويعتكفون احتجاجًا!! لكنّهم، في معليا، و"بحسْنة" رصيد موظّفي المدرسة من أيام العُطل الرسميّة، لا يُخيّبون. وتكون سياحة للصغير والكبير.
نزلاء قلبي ظرفاء طيّبو الطينة... لكنّهم جشعون؛ لا يكفّون عن رمّ أتربة الفرح، وما يستحدثون له من خصاصات، فتكون لهم فرصة، سيّان خيّبهم الموسم أو أنصفهم! هؤلاء الجاهلون لا يصيبون مفهوم الشهوة للراحة. كما يسخرون من شرح محاسن التوافق بين الأجواء والطقوس. فلا شيء يعنيهم غير المتوافق مع أهواء مسارحهم.
أمّا ضمن المسرح القائم في بستان قلبي، فجمهرة سكوت، وإصغاء لبثّ ما قد تأتي به الحكاية الدوّارة في رؤوسهم! وهم لا يفرّقون بين القصة الحقيقيّة والخرافة، حتى ليصدّقوا أنّ بعض سكان هذا الزمن ينمو القرّاص في مسام جلودهم أشواكًا سامّة، والأنياب في رؤوسهم رماحًا حادّة، وتشبّ النار من عيونهم كشّافات تعمي البصيرة! ويعدون جادّين، بالحذر من هؤلاء قدر المستطاع!
في عصريّة زيتونيّة بامتياز كان التعب قد استولى على لسان الحكواتي، فغطّت الحكاية في الشخير، فتفرّقوا كلًّا إلى مستراحه يحمّلون جيوبهم بضع حبات من الزيتون، وأوراقه، ثيابهم وجلودهم الكثير من طين مجابل التراب.
دخلتُ غرفة الصمت، فسمعتُ جلبة في خلفيّتها وشاية. وأتعرقل ببيدر أوراق بينها حواجز من الأقلام والألوان، جعلت منها زلّاجات... إنّها حقًّا لحكاية! تبسّمتُ ملء صدري، وتراجعتُ للوراء خطوة؛ فلا أُطعم سلة المهملات أو النار شيئًا من هذه الفوضى المحبّبة! فربّ البيت قلب يشير عليّ بالتعامل معها بحِنّيّة ودبلوماسيّة. فكان له ما أراد؛ رزمتُ الحكاية وأحلتُها لفرصة شتويّة يكون كانون حاكم أجوائها والوجاق راصد طقسها. هناك سأفردها دون رقيب زمنيّ أو حسيب!
وكانت حكاية متعة حقيقيّة لا يلزمها تطعيم بشيء من التشويق. تجمّع أوراق غير مسطّر، انتشرت فيه بذور الإبداع رسمًا وكتابة... "حسنًا فعلتُ ولم أحكم عليها بالإعدام!" هذه الصفحة المرشوشة رشًّا منظًّمًا وأنيقًا تعتقلني! هذا مذهل! وهي بحدّ ذاتها حكاية تستحقّ السهر والرواية.
التصقت الورقة بيدي، والتوقيع تحتها لاصق بعيني. لا تبدو عليه علامات تزوير؛ فالخطّ شاهد يؤكّد أنّه لصاحبة التوقيع... بنت الصفّ الثاني! لكن، وبدليل عطلة الزيتون الجارية (عند ذاك)، تكون ميري واقفة على الحدّ بين الصفّين: الأوّل والثاني... وتوقّع باسم مستعار "ميرا"!
"ميرا" تحكم عليّ بسبّابتها الصغيرة، وعن بُعد، دخول المتاهة! فقد وعدتُ بالتنفيذ! وكان الوقت الذي يسمح بالتفرّغ لمسح الحدود بين الكلمات! فحملتُ مثقب التحليل والتفسيخ بيد، وبالأُخرى خيوط الربط موصولة بالمسلّة... وتمكّنتُ بجهد قليل وصبر كثير من الوصول إلى عين المتاهة. وأفهم خلاصة ما أرادت التعبير عنه ببالغ الصدق والرقّة!
"ميرا" تعبّر عن سعادتها بما أسهمت بأعمال البيت والحديقة، وأنّها قبلت مكافأة أمها، فقط، لأنّها تحبّ "الباربيات"! وأنّها مسرورة بتفهّم الأمّ شقيقتَها التوأم: "شو صار؟ كانت تعبانه ونعسانه! وحصلت على باربي...! وغير هذا الكثير من رشقات المحبة لأخيها، ونيّتها بتوفير مصروفها لتهديه في عيد ميلاده كمنجة "أبوي بقول: صارت هاي الكمنجة صغيري عليه. أو تهديه قوّارة ورد ليلكي؛ صورتو حدّ الوردة الليلكيي بتجنّن...! هذا غيض من فيض طفولة تدمج الحلم بالواقع!
ميري تعيد على مسمعي صرخاتي السابقة، بالمباشر وغير المباشر، حتى بُحّ الكلام... وكم رجوتُ معلمتي ألّا تقطع فصلين من العام الدراسيّ بتقطيع الكلمات لمقاطع، وتحليل المقاطع لحروف. فإنّ هذا مدعاة لملل يؤدّي لتشويش فتنافر يحدّ من انسياب نغمة التجانس بين أفراد أُسرة الجملة. وهذا معرقل قد يتسبّب بالقطيعة بين المبتدئين ولغتهم الأُولى. فالأهمّ والأجدى هو رسم الحدود بين أحرف العلة والحركات (عارِف عَريف). وهذا، بحسب تجربتي، ممتع! والأهمّ الأهمّ هو رسم الشدة أينما وقعت، لا تحليلها (شدّ= شَ_ دَ_ دَ)! وهذا تكبيل في غير أوانه! فعالَم الشدة أوسع من هذه المساحة. ولا يجيز المنطق زجّها في مسألة التقطيع. المهمّ في هذه المرحلة هو الإصرار على رسم حركات، باعتبارها ضابطة إيقاع أواخر الكلمات، تهيّئ السمع لاستيعاب وتخزين القواعد، بما فيها حركة الشدة، السكون، والنقطة في آخر الجملة كجزء من البديهيّات. فَ "بيتي" غير "بيتيّ"، وَ"سمّعَ" غير "اسمعْ"، و"عامٌ" غير "عامّ"ّ! أمأ فميري التي نظ ظ فت ط طا وِ لت وحط طت جلي بجْ جَ لْ لاي، فتترك الحدود مفتوحة على الآتي، وكأنّ النقطة تسكتها!
فلا نتوقّعنّ من صغارنا تذوّق حلاوة هذه اللغة إذا كان أوّلها "مرّ المذاق"! ولكن، ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل! ففي هذا السياق سأُتابع، وصولًا إلى "ذوات العلل"، (كما سمّيتُها)، وهي: الهمزة، النون والتنوين، التاء مفتوحة ومربوطة، وقاعدتها الأولى تقوم على الحركات التي تسبقها، وهي أولويّة على الأحرف الشمسيّة والقمريّة مع أل التعريف.