
















اهلا «حين يتكلم الصمت: دروس في الإنسانية من مصنعٍ صغير» مكان بعيد عن ضوضاء المدينة، لا تضيئه الكاميرات ولا تكتبه التقارير. لكنه، في عمقه، أكثر صدقًا من كل ما يُقال عن الإنسانية. هناك، لا شيء يُباع ولا يُشترى. هناك، كلّ شيء يُعاش. يدخل العمال تباعًا — وجوه هادئة، خطوات مترددة، أصوات خافتة. لكن خلف تلك الوجوه، هناك عالم كامل من المشاعر التي لم تجد يومًا من يفهم لغتها. في عيونهم أرى الصفاء الذي فقدناه نحن، الذين ندّعي أننا “أسوياء”. وأنا، في كل مرة، أشعر أنني الزائرة في عالمٍ أنقى من عالمي. في الخارج نُتقن الكلام عن القبول والتنوّع والدمج. نكتب الخطب ونوقّع العرائض وننشر صورنا بجانب من نُسميهم “أصحاب التحديات الخاصة”. لكن هنا، في هذا المصنع الصغير، تتعرّى اللغة من التزييف. الدمج ليس مشروعًا تربويًا، بل حالة وعي. والتنوّع ليس شعارًا جميلًا، بل تجربة روحية تُغيّر نظرتك إلى الوجود. هؤلاء الناس لا يحتاجون إلى من يتحدث باسمهم، بل إلى من يصغي إليهم بصدقٍ خالٍ من الشفقة. إنهم لا يريدون أن “نُصلحهم”، بل أن نراهم — كما هم، ببطئهم، بصمتهم، بصفائهم. في كل حركة من حركاتهم فلسفة خفية: أن تكون على سجيتك، دون خوف من الرفض. أن تتنفس بعمق، لا لتلفت الأنظار، بل لتؤكد أنك موجود، وأن وجودك حقٌّ بحد ذاته. أجلس بينهم، وأتأمل كيف يمكن للبساطة أن تكون شكلاً من أشكال الحكمة. كيف أن التواصل الحقيقي لا يحتاج إلى كلمات كثيرة، بل إلى حضورٍ نقيٍّ بلا حواجز. في لحظة واحدة من الصمت المشترك، قد يحدث ما لا يحدث في ألف حوار. ذلك الصمت الذي لا يخيف، بل يفتح القلب على اتساعه. تعلمت هناك أن الدفاع عن الآخر ليس مهمة أخلاقية، بل مسؤولية روحية. أن السِّنغور — الدفاع عن ذوي التوحّد — لا يعني أن نصنع لهم مكانًا في عالمنا، بل أن نعيد تشكيل العالم بحيث يتسع للجميع. أن نصحّح رؤيتنا قبل أن نحاول تصحيحهم. أن نكفّ عن النظر إليهم كـ “آخرين”، لأنهم ببساطة نحن، حين نكون في أصدق حالاتنا. كل مرة أغادر فيها المصنع أشعر أنني أترك خلفي مرآة تكشف حقيقتي. هناك أفهم أن “المحمي” ليس مَن يعمل في المصنع، بل نحن الذين نحتاج الحماية من جفاف قلوبنا. أفهم أن الكرامة ليست امتيازًا، بل لحظة وعيٍ بأن كل نفس بشري، مهما بدا غريبًا، هو جزء من موسيقى الخلق. ربما العالم كله يحتاج إلى مصنعٍ صغير كهذا. مكان يعيد تدريبنا على الإنسانية المنسية. مكان يُذكّرنا أن القيم ليست في الكتب ولا في السياسات، بل في التفاصيل اليومية البسيطة: في نظرةٍ حانية، في يدٍ ممدودة، في وقتٍ يُمنح دون مصلحة. مرة في الأسبوع، ولمدة ساعة ونصف، أتعلم من أولئك الذين لا يتكلمون كثيرًا، أن الصمت أحيانًا أبلغ من البيان، وأن الحبّ لا يُقاس بالكلمات، بل بقدرتك على أن ترى الآخر دون أن تحكم عليه. 🌱 الخاتمة ليس فيه أبطال ولا ضحايا، بل بشر يتقاسمون الهشاشة والنور. وحين أخرج منه، أدرك أن الإنسانية ليست مشروعًا كبيرًا ننجزه، بل لحظة صدق صغيرة نحياها بعمق — مرة في الأسبوع، أو ربما مرة في العمر
بقلم رانية مرجية
مرة في الأسبوع، ولمدة ساعة ونصف، أذهب إلى المصنع المحمي.
ليس في هذا المصنع دروس في العمل، بل في الوعي.