اهلا تستحق سكة الحجاز التي ما زالت بقاياها قائمة أن نقف على أطلالها لنبكي على فقدانها ، فقد كان في بلادنا قطارات قبل أن يزورها ( ثيودور هرتسل ) ويحلم بتحويل الصحراء إلى أرض تشقها قطارات كهربائية يقيمها اليهود ، تسير من فلسطين إلى لبنان فدمشق ، كما كتب في روايته " أرض قديمة - جديدة " 1902 ، ولقد كتب محمود درويش قصيدة عنوانها " على محطة قطار سقط عن الخريطة " ( 2008 ) واقفا على الأطلال ، ولكن جمال الحسيني في " على سكة الحجاز " ( 1932 ) تنبأ بما ستؤول إليه فلسطين بسبب هجرات اليهود إليها وشرائهم الأراضي لإقامة المستوطنات عليها .
في أثناء كتابتي عن " اليهود في الأدب الفلسطيني من 1913 إلى 1987 " توقفت أمام اسم نجيب نصار الذي قرأ في العام 1905 ، بالإنجليزية ، مقالا عن الحركة الصهيونية ، فكتب محذرا العرب الفلسطينيين من أخطارها ، وتوقفت أمام أول نص شعري ( 1913 ) يحذر صاحبه فيه العرب من بيع الأرض .
في 1913 كتب الشاعر الضرير سليمان التاجي الفاروقي قصيدة خاطب فيها خليفة المسلمين لكي يلتفت إلى خطر " اليهود " القادم مع الهجرات التي بدأت في 1878 ، علما بأن كتاب ( ماري اليزا روجرز ) " الحياة في بيوت فلسطيين " 1860 يقول إنها رأت اليهود السفارديم والاشكناز في القدس يتعلمون العبرية في 1856.
يقول الفاروقي في قصيدته :
" بني الأصفر الرنان خلوا خداعكم
فلسنا من الأوطان بالمال نخدع .
أقل شعوب الأرض أهون أمة
تساومنا في أرضنا ، كيف نهجع ؟ "
إن استشراف المستقبل والخوف من ضياع فلسطين كان أيضا هاجس الشاعر اللبناني/ الفلسطيني وديع البستاني الذي أقام في فلسطين حتى العام 1953 ، قادما من لبنان . لقد تنبه مبكرا إلى سياسة بريطانيا التي أصدرت وعد بلفور وعملت على تنفيذه ، و كتب - لما رأى في سراي يافا لوحة " الجمعية اليهودية - الرئيس الملازم مكروري " وقد رأى فيها نواة الدولة اليهودية - كتب قصيدة يقول فيها :
" تريدونها جدا وجدا أقولها
من اليوم سرا ، إن أردتم ، أو جهرا .
فتحنا لكم صدرا ، مددنا لكم يدا
وإني لأخشى أن تديروا لنا ظهرا
أرى الوطن القومي يعلو بناؤه
أرى غرفة في القصر تحجبه قصرا "
وسوف يتكرر خوف الفلسطينيين من الخطر الصهيوني في قصائد لاحقة كثيرة لدى ابراهيم طوقان ، وفي بعض قصائد عبدالرحيم محمود :
" أجلاء عن البلاد تريدون ، فنجلو
أم محونا والإزالة "
و
" المسجد الأقصى أجئت تزوره
أم جئت من قبل الضياع تودعه " .
تعد " على سكة الحجاز " 1932 من الأعمال النثرية المبكرة ، على قلتها قبل العام 1948 ، التي تنبأت بضياع فلسطين وتشرد أهلها . وهي تأتي على قرية " ستة " التي بيعت . كما لو أنها تمثل نفسها وتمثل فلسطين كلها .
قفا نبك :
المقطع الأول من الرواية يقع في صفحتين ونصف ونصغي فيه إلى سارد يستخدم ضمير الأنا يقص فيه عن قطار الحجاز وقرية فلسطينية في زمنين ؛ الأول ما قبل 1914 بقليل والثاني 1929 - 1931 .
في الزمن الأول كان القطار أنشيء ليربط بين بلدين مقدسين ليسهل حركة المسلمين في تأدية فريضة الحج ، و كان أهل القرية يفلحون أرضها ويأكلون من خيراتها ويعيشون في ثبات ونبات ويخلفون صبيانا وبنات ، وفي الزمن الثاني صار القطار يقل أناسا مختلفين هم اليهود ، وصارت القرية الوادعة البسيطة مستوطنة يهودية يقطنها سكان جدد هم اليهود الذين حلوا محل الفلاحين الفلسطينيين .
ويصف لنا السارد مشاعره إزاء المكان في زمنه الأول ، ومشاعره في الزمن الثاني ، حاله بذلك حال الشاعر العربي الجاهلي الذي قال :
" قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل
بسقط اللوى بين الدخول وحومل "
يبكي الشاعر الجاهلي من ذكرى الحبيب والمنزل ويبكي المتكلم في الرواية القطار وقرية " ستة " وأهلها الذين تشتتوا في البلاد بعد أن باع إميل بك ابن ابراهيم بك أرض القرية لليهود .
يعقد أنا المتكلم مقارنة بين حالي المكان في زمنين ويصف لنا مشاعره الحزينة وهو ما يتضح في الأسطر الآتية :
" وها انذا أقعد اليوم تلك القعدة لأمتع النفس بما عودتها عليه في تلك الأيام ، وأراقب القطار الحجازي ينطلق من حيفا ، فإذا بدتا (؟) لي ارتد طرفي بدمع سخين ، وانكمشت مكاني بقلب حزين ، ذلك أن هذا القطار ينطلق من حيفا ولكن لا إلى مدينة الرسول ! ويضم الألوف في أحشائه ، ولكن ممن لم تدفعهم إلى ركوبه عاطفة سامية أو بقصد جليل ! ذلك أن هذا القطار حجازي بالاسم ! ذلك أنه أنشيء من قبل المسلمين ولمصالحهم فأصبح لليهود ومصالحهم " ( ص 5 و 6 ) .
و
" ما أكثر ما يشعر به المرء من هذه الفروق في فلسطين بين الأمس والبارحة ! وأنه ليتساءل : ماذا حل بتلك القرى العربية ؟ وماذا حل بأهلها " ( ص7 ).
وتأتي الرواية التي تقع في 168 صفحة لتفصل الأسطر السابقة ، وهو ما كتبته في مقالة الأحد الماضي .
وتعد الرواية مهمة جدا - بل مؤسسة لمن يدرس ظاهرة الوقوف على الأطلال في الأدب الفلسطيني . صحيح أنها من الناحية الجمالية عادية ولكن ما علينا تذكره هو زمن كتابتها ، وقد كانت الرواية العربية والفلسطينية في بداياتها . وتبقى القيمة الاجتماعية التاريخية لها ، وهذا ما لا ينبغي أن يغفل عنه إطلاقا .
سوف يستشرف كتاب فلسطينيون آخرون ، في فترة لاحقة ، وتحديدا في 40 القرن العشرين ، المستقبل الذي سيلم بفلسطين وأهلها : اسحق موسى الحسيني 1943 وبرهان الدين العبوشي ونجاتي صدقي 1947.
تنتهي رواية الحسيني " مذكرات دجاجة " بانتصار صوت الدجاجة الداعي إلى التخلي عن المأوى / فلسطين والانتشار في الأرض لإصلاح الكون حتى إذا ما صلح صلح أعداؤنا وحلت قضيتنا ، وترفض الدجاجة اللجوء إلى المقاومة : " فكونوا أنتم تلك النفوس . سيحوا في الأرض ، وتوزعوا بين الخلق ، وانشروا بينهم المثل العليا ، والمباديء السامية ، وإني لواثقة بأنا سنلتقي في مأوانا هذا بعد أن نطهر العالم أجمع - لا وطننا الصغير فحسب - من هذه السلالات . " ( ص 157 ) و " إذن هيا وانتشروا في الأرض " وأما هي " ثم جمعت نشاطي ويممت شطر المأوى ، وفي نفسي نغمة ما فتئت تتردد حتى بلغته ، تلك التي هي : إلى اللقاء...إلى اللقاء... " ( ص158 ) .
أما مسرحية العبوشي " شبح الأندلس " فإن عنوانها يقول لنا كل ما كان يخطر في نفس كاتبها : فلسطين في طريقها ، مثل الأندلس ، إلى الضياع وسوف تغدو ذكرى .
وتنتهي قصة نجاتي صدقي " الأخوات الحزينات " 1947 بسؤال الأخت الصغيرة التي تقص عن حالهن بعد 1917 ، أخواتها : " أحقا أنكن لا تعرفن شيئا عن ذكرياتي؟ وهل تدرين لماذا نحن متشحات بالسواد؟ ولماذا ينعتنا الناس بالأخوات الحزينات ؟ " وحين يصحو سارد القصة من غفوته تحت الجميزات الخمسة اللاتي حلم بأنهن تحولن إلى أخوات خمس يروين تاريخ فلسطين يرى رياحا شديدة تعصف بالشجرات تريد اقتلاعها من مكانها . ولننظر إلى تاريخ كتابة القصة وهو 1947 لنرى استشراف الكاتب نكبة 1948.