
















اهلا 🌿 «مسّني جِنّ»… حين تكتب تفّاحة سابا من لحم المرأة ومن ظلّها ومن ما تبقّى منها وهي تُصلح الكون ولا تُصلح حزنها بقلم: رانية مرجية هناك نصوص تُقرأ، وهناك نصوص تسكننا، تُفتّش في صدورنا عن تلك الندبة التي خبّأناها منذ أعوام، فتلمسها كما لو كانت تعرف مكانها جيدًا. وكتاب «مسّني جِنّ» للكاتبة الفلسطينية تفّاحة سابا من هذا النوع الذي لا يكتفي بأن يُقرأ، بل يفرض نفسه كمرآةٍ نرى فيها المرأة التي نعرفها، والمرأة التي كُنّاها، والمرأة التي حاول العالم أن يصمتها بالقوة. صدر هذا العمل عن دار الحديث للإعلام والطباعة والنشر – عسفيا، تحت رعاية الإعلامي فهيم أبو ركن، في زمنٍ يُحاصَر فيه الأدب الجريء، ويُراقَب فيه صوت المرأة، كان أبو ركن شريكًا فعليًا في انعتاق النص، وداعمًا لكتابة لا تخشى الحقيقة. ✦ الإهداء… امرأة تنادي على الضوء ولا تخاف من الظلّ الإهداء في هذا الكتاب ليس كلمة تسبق النص، بل مفتاحه. تفّاحة سابا تهديه “للمسكوت عنهن”، “للمخنوقات”، “للنساء اللواتي تعلّمن أن يُبقين صوتهنّ منخفضًا كي لا يوقظن غضب أحد”. إنه إهداء يعلن منذ البداية أن هذا الكتاب ليس عن امرأة واحدة، بل عن شعبٍ من النساء، عن ذاكرةٍ ممتدة لا تموت بالسكوت. ✦ مقدّمة تفكّ القيود عن مفهوم الأدب النسوي كتب الناقد العراقي د. ماجد الحيدر مقدّمة عميقة للعمل، أعاد فيها الاعتبار إلى الأدب النسوي بوصفه أدبًا يحمل رؤية، لا تنفيسًا، عمقًا لا شكوى، وسؤالًا لا تبريرًا. يرى الحيدر أن نصوص تفّاحة سابا: «تخترق بنية الوعي الجمعي وتفجّر المسكوت عنه» ✦ الجسد… ساحة حربٍ وصلاةٍ وخيبة واحدة الجسد في هذا الكتاب ليس حضورًا فيزيائيًا، بل حالة وجودية كاملة. هو المكان الذي يُمارَس عليه القهر، وهو المكان ذاته الذي تُصاغ فيه النجاة. «يمارس على جسدي تشويه روحي… ويستمد من ضعفي جوع رجولته.» وما أصدق أن تعترف الكاتبة بأن الروح أيضًا تُغتصب، وأن الألم لا يتوقف عند حدود الجلد. لكن تفّاحة سابا لا تكتب الألم لتمجّد الوجع، بل لتقول: أنا هنا… وهذه حكايتي… ولن أدفن وجعي من أجل أن يرتاح العالم. ✦ الطفل… أمومةٌ مسروقة وذاكرة لم يُسمح لها أن تنضج واحدة من أعمق الاستعارات في الكتاب هي حلم الطفل الذي لا يأتي، أو يأتي منقوصًا، أو يولد ميتًا في الوعي قبل أن يولد في الجسد. «هل تستطيع أن تشعر بخيبة امرأة تلد حلمًا لا يكبر؟» ليس الطفل طفلًا، بل أملٌ ذُبح من الوريد إلى الوريد على مذبح مجتمع يقرّر وحده لمن يمنح الأمومة ولمن يمنعها. ✦ الرجل… كائن هشّ يرتدي قناع القوة الثقيلة تفّاحة سابا لا تقدّم الرجل وحشًا، بل تقدّمه كما أعرفه أنا أيضًا: متعبًا، خائفًا، محكومًا بتوقعاتٍ لا يستطيع حملها. «رجل لا يستطيع أن يبكي… رجل لا حيلة له.» هو يذكّرنا بأن صراع المرأة والرجل ليس حربًا بين جنسين، بل حربًا بين الإنسان وما فُرض عليه من أدوار. ✦ اللغة… شعرٌ يتنفّس، وجرحٌ يتكلّم لغة تفّاحة سابا ليست لغة حكاية فقط، بل لغة احتراق. جُمل قصيرة تكاد تُسمع نبضاتها، وصور حارّة لا تُنسى: «بعض أعضائي امتدّ إلى آخر الكون…» «أغفو على صوت المطر لأتذكّر أنّي ما زلت حيّة.» هذه اللغة تحفر أكثر مما تكتب، تكسر أكثر مما تصف، وتُعيد بناء القارئ كما تُعيد بناء نفسها. ✦ الذروة… الرقص بوصفه نجاة في نهاية الكتاب، وبعد كل العتمة، تأتي لحظة تشبه إعلان الحياة: «أرقص… أنصهر مع الطبيعة… أخرج من الحظيرة.» هو طقس انبعاث، حركة تقول للكون: لا زلت هنا، ولم أُهزم بعد. ✦ كلمة أخيرة… «مسّني جِنّ» كتابٌ لا يرثي المرأة، بل ينحاز لها. لا يفضح الرجل، بل يفضح البنية التي جعلت الرجل والمرأة معًا أشلاء متناثرة من أحلامٍ مؤجّلة. هو كتابٌ يليق بأن يُدرَّس، وأن يُناقَش، وأن يُقرأ من جديد في كل مرحلة من حياة المرأة والرجل. وتحية إلى الناشر فهيم أبو ركن الذي قدّم لهذا الكتاب فرصة الوجود، وإلى تفّاحة سابا التي كتبت كما يجب أن تُكتب الحقيقة: عارية، شجاعة، مُرهِقة، ومُنقِذة.
لوحة الغلاف للفنان السوري-اللبناني ياسر خطار الذي لم يقدّم للكتاب غلافًا فحسب، بل قدّم له جسر عبورٍ إلى الضوء.
وهذا ما نحتاجه اليوم: كتابة لا تعتذر عن نفسها، ولا تنحني للعادات، ولا تخجل من أن تقول ما ظنّ المجتمع أنّه من الممنوعات الأبدية.
ما أصعب أن يتحوّل الجسد إلى وثيقةٍ على ما فعلته السلطة الأبوية بالنساء.
هنا تتقاطع الأمومة بالحرمان، والرغبة بالخذلان.
ما أجمل هذا الاعتراف.
هذا الرقص ليس رقصًا؛