
















اهلا يقولون من يعاشر القوم أربعين يومًا يصبح مثلهم. لكنّي أعاشر الأدباء منذ ما يزيد عن أربعين عامًا ولم أصر مثل رُبعهم! عاشرتهم فعرفت عنهم أمرين: (1) إذا سبقت أفكارُهم واقعَهم وألحّت عليهم خلقوا التجارب الحياتيّة لتحملها، خلقوها خلقًا. (2) وإذا كان الواقع قد وضعها في طريقهم التقطوها بمجسّاتهم المستنفرة وعرفوا كيف يهذّبونها ويؤدّبونها ويحمّلونها كيلين وعلبة.. أمّا أنا فلا قِبل لي بذلك، أنتظر الواقع نفسه حتى يأتيني بها مؤدّبة جاهزة منجزة لا تحتاج إلى أيّ تشفير. ألملمها وأوثّقها كما هي. لذلك هم مبدعون وأنا ناقل. وهذه حقيقة تُنصفهم هم وتُرضيني أنا.. هذه إذًا ميتا كبسولة أوضّح فيها ما يعملونه هم وما أفعله أنا. والفرق بين العمل والفعل كبير.
ينتعش الناس في بلاد المسلمين اقتصاديًّا قبل مواسم الحجّ. وتُلاحظ حركة نشطة من السيولة الماليّة، التي كانت راكدة لأشهر، لدرجة أنّي سمعت صاحب محلّ لموادّ البناء يقول وهو يمزح بجدّ: كنت أرجو أن يكون موسم الحجّ كلّ ثلاثة أشهر!
بعض الناس عبوس بالفطرة، تعلو وجهه كشرة طبيعيّة مزمنة حتّى وهو يضحك. الحاجّ نمر على العكس تمامًا، تعلو وجهه ابتسامة عضويّة طبيعيّة حتّى في الجنازات. وهو معروف بروحه المرحة وقدرته على رواية الحديث والنكتة. لكن ما سمعته منه شخصيًّا قبل سنوات لم يكن لا مزحة ولا نكتة. ملخّص الحكاية أنّ الحاجّ نمر، قبل سفره إلى الحجّ، ذهب إلى أبو العبد ليستسمحه مثلما يعمل كلّ الناس في هذه الحالة. زاره في بيته وسأله: "بتذكر يا أبو العبد لمّا فقدت سخل قبل ثلاثين سنة من شلعة المعزى اللي كنت تسرح فيها بالعريض [منطقة بين كابول وطمرة]؟ أدرك أبو العبد الغرض من وراء السؤال وقال بفطرته السليمة على الفور: "ذاكرها زي إسّا!" فقال الحاجّ نمر: "أنا سرقته مع فلان وذبحناه وأكلناه! وأنا قاصدك اليوم طالب المسامحة قبل ما أسافر على الحجّ، وأنا جاهز شو بتأمرني. وزي ما بتعرف الحِجّة ما بتجوز للّي برقبته دين". فقال أبو العبد بسرعة البديهة التي تميّزه: "اسمع يا عمّي يا نمر، حقّ السخل اليوم 2500 شيكل، زيد عليه فايدة ثلاثين سنة لورا بطلع بالآخر عليك السخل 5000 شيكل". فقال الحاجّ نمر بسرعة البديهة التي لا تقلّ عن بديهة أبو العبد: "لو بدّي أدفع يا عمّي يا أبو العبد لكلّ واحد مثل فضلك 5000 شيكل كان راحت عليّ الحِجّة!" قهقه الحاجّ نمر وهو يختم كلامه بشيء من دعابةٍ لم أفهم كنهها.
بغتني وبهتني ما سمعته من الحاجّ نمر بالضمير الأول المقيّد! فقلت له بالضمير الثالث المطلق: إللي في بطنه عظام ما بنام.. يِخلِفْ على الحِجّة! حكيتها لأحد الأصدقاء، مثلما سمعتها من الحاجّ نمر نفسه، فقال مستغربًا: " وإنتِ ليش زعلان؟! المهمّ سدّ الدين". لو كانت بهذي البساطة والسذاجة، مثلما ظنّ الصديق، لما كتب سهيل كيوان قصّة مشابهة قبل سنوات.