اهلا
في تلك العصريّة نزّلت السماء لأُمّي مفاجأة أشبه ما تكون بلطشة كهربائيّة، فأشرقت بها إشراقة عجيبة! نادت شقيقتي: استعجلي تعالي إسمعي هلّي سمّيتك عإسما! حلا تستعجل، فتتعرقل بحبل النطّ، وتخسر الجولتين!
أُمّي لا تعرف من مغرِّدات الشمال غير المعلمة حلا، وهي مرنّمة حملتها الصدفة من إدارة كورال المدرسة في البصّة إلى البقيعة برفقة بعض زملاء خالي... وتحملها عذوبة صوتها إلى الأُفق الجبليّ، حيث صارت تعود القرية بصفة مرشدة أخويّة مريميّة. (ثمّ في معليا). وامتدّت العلاقة لصداقة عميقة مع الأُسرة. في جلسة خاصّة تغني "يا جارة الوادي"، فتستولي على شخص أُمي بهذه الترنيمة السلطانيّة... ويولد اسم حلا سنين قبل أن نولد، وتولد.
بينما يمتصّ كاحل حلا الصدمة يدخل الفناء في صندوق العجب، وهو المفاجأة العائد بها أبي من عكا بفضل العائد من ثمن العنب. في الصباح التالي يعود المذياع على البيت بجارة الوادي. وتتوالى المفاجآت. ويعبق الخريف بربيع يزهر في المساء ويثمر في الصباح، ولم تقطف أُمّي ترنيمة سماويّة بعد! "فيروز!؟ بسّ الحلا أحلى! ليه غيّرت إسما؟؟
كلّنا "بدوي فايت عمدينة"، وأُمّي تسمّع الراديو الفتيّ مقتطفًا من دفاتر أبوها العتيقة، ومذياعه المبحوح... تتقن الدور إلى حدّ اختلاق جدل حول أيّهما أحلى، الفيروز أو الحلا! وقد تأكّد لها، قبل قليل، أنّ قرطيّ المعلمة حلا كانا من حجر الفيروز، وقد مرّر الراديو تعريفًا بالعصفورة، ومعلومة عن تسميتها بهذا الاسم الكريم. وصارت فيروز قصة بطلتها حلا، الساحرة التي ستطيّر عصافير الحبّ من أعشاشها، وتحلّق به عاليًا على أجنحة رحبانيّين فرضا على الواقع فلسفة المحبّة دينًا لا نهي فيه ولا أمر!
على ضفاف النيل تنمو حضارة مسموعة مثيرة، والصندوق السحريّ يخبر عنها أولًا بأوّل، فتعمّد الشرق بفيضانات أُمّ كلثوم وعبد الوهّاب وفريد الأطرش وأسمهان... وتأهّل لصعود أبراج المجد المواكب لألوان العصر... وينتهي الفصل الأوّل بتحقيق وحدة طربيّة شبه جماعيّة!
وكان ما هو أحلى من الحلا؛ حجر كريم ينطلق من جبل لبنان، فيجلب الحظّ للشرق معلنًا عن تحرير الحبّ من الاحتكار والقمع باسم الجنس، وانتقاله من عصر الخباء لعصر الضياء. القوقعة تتصدّع، وتبدأ رحلة الحبّ إلى عالم أوسع، أشمل وأعمق، حيث يلتقي أفراد عائلته على مائدة واحدة، متى وأينما شاء. فيسهر ويحلم... ويبوح ويعاتب... ويستعجل صبح الجلّنار "روّج"... ويسمّع المساء ما يستعذبه الصباح، والصباح ما يشي به المساء. ومن دوّارة وسط الحارة يسمع الضواحي البعيدة أخبار الروزنة والطاحون والحصاد والبيدر والتنور والسطح والعريشة والنبع والعرس... ويبثّ الأمل فيمن ينتظرون "راجعون"!
حين يعفى الحبّ من عصا الجهل تسقط حاجته لكرسيّ الاعتراف السريّ، فيحنّ ويشتاق ويتمنّى علنًا: "يا ريْت إنتِ وأنا بالبيت..."، وتستبقي حبيبها علنًا " سهار تيحرز المشوار..." وتصرّح له علنًا "يا حبيبي لا تغيب كثير وتتأخّر ليليّة، أنا ما بدّي هدايا حرير...". رغم هذه الصراحة المباشرة تُنقَش فيروز في قلب الحقيقة لوحة للصدق والمباشَرة، مع العفّة والخفر الأُنثويّ! (ولو أنّ العصر يستمرئ هذا، ويستوعب أبعاده، لمنع عنه الكثير من التعقيدات). هذا هو أعمق أسرار فيروز الرمز المحاط بهالة من القدسيّة! هذه قارّة العشق الكونيّ الواقعة في مركز الإنسانيّة، والتي لا تغيب الشمس عنها... من هنا تكرَّست مجسّات صوتها الموصل الأجود لكلّ طالب حقّ، أو لجوء عاطفيّ، من الطفل المقمّط بالسرير لجدّي وستّي الختيارة بَرَكة الحارة. ويتجلّى نبل العواطف البشريّة كوحدة متكاملة لا تتجزّأ! وتقتنع أُمّي أنّ هذا أحلى من الحلا!
فيروز الخجل صوت ذكيّ يدلّ على ذاته شاعرًا مثقّفًا أبدع بنظم انتماء لبنانيّ محليّ؛ لفصوله، سمائه، ترابه، جبله، بحره وساحله... لصنين وجبل الشيخ والوديان وبيروت ومشغرا وبعلبك والجنوب... وبرع برسم خارطة انتماء قطريّ للشام وبردى، والأُردن وعمان، والقدس وبيسان... ومكة والإسكندريّة... وروّج من على مسارح العالم لانتماء أُمميّ للإنسان! فلا غرابة في أن تصبح القصيدة التي تعظّم شعراء المحكيّة والفصحى بها، وعظّموها بما نظّموه لصوتها من رحلات إلى عالم الجواهر الفريدة... وتضوّي قناديلها في بيوت كلّ الناس "لُكسات"، ولم تخصّ ذاتها بسراج عتيق!
واللّي نادى الناس تيكبروا الناس ما نسي يناديها! ويدقّ العالم، في عيد ميلادها، على صدره فينفتح... ويجدها على سدّته ذاكرة فيحاء لا تشيخ، وعلى سدّة قلبه زجاجة نبيذ كنسيّ، وعلى سدّة عقله مصباحًا يحكي للتاريخ فيروز الحلا كلّو!
وللّي نادى الناس تيرحلوا الناس ما نسي زيادها، فأبكاها... وأعادها للكوخ الفقير شمعة خاشعة تصلّي، "والثلج ما خلّى وْلا عُودِة حطب، والريح عميصفر فوق منّو صفير وتخزّق بهالليل منجَيْرة قصب..."، وريما في سرير "الحندأّه" باقية قنديلًا يتصفّح والأُمَّ الحزينة أسفار هذا البيت العظيم!