اهلا
الثلاثاء, 15 تموز/يوليو, 2025
كلّ الكبسولات التي أنشرها في الفيسبوك هي في أصلها مقالات كنت نشرتها في صحيفة الاتّحاد على امتداد اثنين وأربعين عامًا. هذه الكبسولة مهداةٌ لروح صديقٍ عزيز عليّ هو الأديبُ الأريبُ المرحوم محمّد نفّاع أبو هشام الذي رحل عنّا في مثل هذا اليوم قبل أربع سنوات بالضبط. كان أبو هشام أول من يتّصل بي ليعلّق على مقالاتي في الاتحاد. لم يكن الرجل من عشّاق الواتساب. حين نشرت هذه المقالة وقتها اتّصل كعادته وهو لا يتمالك نفسه من الضحك. كانت تقطع ضحكته قحّة ناشفة من التدخين. بعد أن هدأ قليلًا قال لي: "من حيث تدري أو لا تدري، هذا المقال أفضل تمثيل عمليّ لقوانين الديالكتيك وعلى رأسها صراع الأضداد".. ضحك مرّة أخرى وطال حديثنا وتشعّب في شِعاب. نم قرير العين يا أعزّ صديق!
* * *
وجّهني إلى عزرائيل ولا توجّهني إلى دكتور أسنان، مع احترامي وتقديري. كان الطبيب يحضّر الإبرة، ينقفها بإصبعه ويلوّح بها أمام ناظريّ كما لو كان يلوّح بإصبع عنبر!! لاحظتْ الممرّضة الروسيّة اللطيفة خوفي من الإبرة فحاولتْ أن تخفّف عنّي وتفضّ مغاليقي بالحديث معي... كانت عندها بَسّة عاشت معها أربعة عشر عامًا. ماتت قبل سنتين. من مرض؟ لا.. كبر وهرم. وهي ما زالت تتذكّرها بشوق وحنين، ولم تفلح في نسيانها. وكيف تنساها وقد قضت معها نصف عمرها تمامًا؟! كانت تنام في حضنها، تناغيها، تحمّمها بالصابون المطيّب، تطعمها أفضل الأطعمة، تعرضها على الطبيب البيطريّ بانتظام. وحين كانت تسافر إلى الخارج كانت تودعها في فندق خاصّ بالحيوانات الأليفة... كانت الفتاة تتحدّث من عمق قلبها عن صدق مشاعرها. تفاعلتُ معها صدقًا. وقلت لها من باب التخفيف عنها: "لا عليك يا عزيزتي فناسٌ كثارٌ كانوا يتمنّون أن يعيشوا مثلما عاشت بسّتك وأن يموتوا ميتتها! وأنتِ في الحقيقة لم تقصّري تجاهها، ولم يبقَ إلا أن تتذكّريها بالخير والرضى"... هدأتْ قليلا ثمّ سألتني: "وأنتَ هل لديك بسّة في البيت؟"
نعم طبعًا، كانت عندنا حيوانات كثيرة: بساس تتقافز حولنا، وكلب أسود لا ترينه إلا وهو يلوح بذنبه سعيدًا بحياته، ودجاج يتمرّغ على رماد الكوانين بين المساكب والبيادر، وعنزات شاميّة جميلة حمراء وبيضاء، وكم سخلٍ أسود مثل السعادين، وحصان رماديّ أغبر طويل الساقين جميل ومؤدّب.. تفاجأتْ. صُدمتْ تمامًا. "أنتَ تمزح؟!" لا والله! وهل لديكَ محلّ في البيت يكفي لكلّ هذه الحيوانات؟! قلت: أرض الله واسعةٌ تتّسع لكلّ خلقه. "وكيف كنتَ ترعاها كلها؟!" لا يا عزيزتي، كانت الرعاية متبادلة، أرعاها بقدر ما هي ترعاني. الرفق بالحيوان عندنا يقوم على معادلة الأخذ والعطاء. كانت بساسنا تساهم في تنظيف البيت من الفئران المقرفة والسحالي والعقارب والحيّات. وكان الكلب يتولّى مهمّة التنبيه في الليالي المعتمة والحراسة العامّة. والحصان الأغبر وظيفته الحرث والنقل. والعنزات تدرّ الحليب. نبيع السخل، وبثمنه نشتري حاجتنا من القهوة والشاي والسكّر والرزّ، وإن بقي باقٍ فللأحذية التي كنّا نشتريها أكبر من مقاساتنا لثلاث سنوات لقدّام. والدجاج للبيض البلديّ الأحمر. وحين كانت الدجاجة تهرم وتعتق كنّا نسلقها في دست من الفجر حتى تستوي بعد الظهر. وكنّا في المقابل نربّيها ونؤويها ونحميها من آفات التشرّد ونحرص على صحّتها. كنّا نجبّرها إذا انكسرت أو كُسرت. ونكويها حين يكون الكيّ آخر الدواء. وقوتها كان بوفرة من خيرات الطبيعة. تعيش بهدوء. تسرح وتمرح كما كُتب لها أن تعيش. لم نكن نسجنها بحجّة الرفق بالحيوان..
أنتِ سجّان يا عزيزتي!! نعم سجّان!! وهل خُلقت البسّة لتتمدّد على الأرائك الوثيرة والزرابيّ المبثوثة ولباسها من سندس وحرير؟ يأتيها طعامها من خلفها ومن أمامها وعلى الجانبين. وهل تظنّين يا عزيزتي أننا كنّا نعيش أفضل منها؟! كانت حيواناتنا تعيش معنا مثلما نعيش بالضبط. لا أفضل ولا أسوأ. كانت تحتاجنا بقدر حاجتنا إليها. نتقاسم مهمّات الحياة الصعبة. وكلّ واحد وواجبه وفطرته التي فُطر عليها. نحن نحبّ الحيوانات حين تكون جزءًا من عائلة البيت، وليست عالة على البيت. نحن لا نخدمها مثلما خدمتِ أنتِ بسّتك. الدنيا أخذ وعطاء. بسّتك يا عزيزتي لم تعرف إلا معنى الأخذ!
هذه هي معادلتنا يا عزيزتي مع الحيوانات. العيش حسب قوانين الفطرة عيشة طبيعية في الطبيعة، والمشاركة وتقاسم الإنتاج وتكافؤ الواجبات والحقوق.. كنّا مبسوطين جدًا نحن وحيواناتنا بهذه المعادلة لأنّ فيها وحدة حال ووحدة مصير... قطبت الممرّضة الجميلة جبينها وكشّرت أنيابها فهمتُ منها أنها تلعنني وتلعن معادلتي وتلعن اللحظة التي حاولتْ فيها أن تخفّف عني!