اهلا- بقلم الاهلامي جاكي خوري بين فرح الجائزة وثقل الرسالة
هذا الصباح، تحرّك الطفل الذي بداخلي.
فوجئتُ حين أبلغتني لجنة جائزة أوري أفنيري للصحافة الشجاعة بأنني، إلى جانب زميلتي شيرين فلاح-صعب، قد وقع علينا الاختيار لنيل هذه الجائزة. للحظة شعرتُ بارتباك داخلي؛ امتزجت في قلبي رعشة فرح صغيرة، كمن ينتظر كلمة "أحسنت" بعد عمل طويل وشاق، مع شعور ثقيل يصعب وصفه، شعور بالذنب ربما، أو بالمسؤولية.
هذه الجائزة ليست تكريماً لنا نحن فقط، بل تذكير مؤلم بأن ما كتبناه ووثقناه لم يكن يجب أن يُدهش أو يُكافأ، لأن الواجب المهني والأخلاقي يُفترض أن يكون بديهيًا: أن نصرخ. أن نشهد. أن لا نغضّ الطرف.
لكننا نعيش في زمن أصبحت فيه الشجاعة تُكافأ، لا لأنها استثناء، بل لأنها أصبحت نادرة.
منذ السابع من أكتوبر، كانت التغطية الصحفية في إسرائيل أحادية الصوت، محكومة بمنظور واحد، بينما يغيب الصوت الفلسطيني، وتُدفن الحقيقة تحت ركام الروايات الرسمية. وسط هذا الضجيج، كانت محاولة جمع الشهادات، توثيق الألم، إظهار معاناة المدنيين، أشبه بالسير في حقل ألغام. كان علينا أن نحفر بأظافرنا في الصمت، وأن نبحث عن أصوات غُيبت عمدًا. لم تكن شجاعة، بقدر ما كانت واجبًا لم نستطع التنصل منه.
الصحافة، كما تربّينا عليها، ليست مهنة فقط. إنها رسالة صدق، وأمانة في أعناقنا. أن تكون صحفيًا يعني أن ترفض أن تكون صدى، أن تكتب لا لأنك تملك الحقائق فقط، بل لأنك تشعر بالمسؤولية تجاه من لا صوت لهم، تجاه من يعيشون المأساة من دون عدسات، ومن دون منابر.
وقد كان لهذه الجائزة وقع مزدوج في داخلي: من جهة تذكير بوجود من يرى، ومن يقدّر، ومن لا يزال يؤمن بالصحافة الحرة. ومن جهة أخرى، نداء موجع بأننا نعيش في واقع تحتاج فيه الحقيقة إلى شجاعة لتُقال.
ولا يمكن أن أمرّ على هذه اللحظة من دون أن أعبّر عن امتناني العميق لكل من دعمني ورافقني في هذه المسيرة. من عائلتي الصغرى – زوجتي وأولادي – الذين احتملوا غيابي وانشغالي، وكانوا دومًا سندي في لحظات الإرهاق والشك، إلى والدي الحبيب اطال الله في عمره والى خالي صاحب المشورة الدائمة والصادقة الى مجموعة كبيرة من الأصدقاء والزملاء الذين لم يبخلوا عليّ بأي دعم مهني أو معنوي.
كما أخص بالشكر طاقم وهيئة التحرير في صحيفة "هآرتس"، الذين منحوني الثقة والمساحة لأنقل ما في وجداني الصحفي، واحتضنوا صوتي دون تردد أو شروط. وإلى عائلتي الثانية في إذاعة الشمس، إدارة وطاقمًا، هذه المنصة التي أستقي منها الكثير، والتي منحتني فرصة لا تقدَّر لإبراز طاقاتي في مهنة المتاعب، وتعلمت فيها أن الصحافة لا تُمارس من خلف المكاتب فقط، بل من قلب الشارع، من نبض الناس، ومن عمق الجراح المفتوحة.
ولا يفوتني أن أتوجه بالشكر والتقدير إلى لجنة جائزة أوري أفنيري، وإلى المشرفين على هذا المسار المهني النبيل – صندوق ريتشل وأوري أفنيري ومنظمة الصحفيين والصحفيات – على هذا التكريم الذي أقدّره بعمق. ليس فقط لأنه جاء تتويجًا لجهد، بل لأنه يحمل في طياته رسالة واضحة: أن هناك من لا يزال يرى، ويقدّر، ويصرّ على التمسك بقيم الصحافة الحرة حتى في أصعب الظروف وأكثرها استقطابًا.
وأشكر من القلب كل من وجّه لي تحية أو مباركة، سواء باتصال أو برسالة أو من خلال الشبكات. كانت كلماتكم بمثابة مرآة عكست أن هذا الصوت – مهما بدا وحيدًا – لا يضيع. أن هناك من يسمع، ومن يقدّر، ومن لا يزال يؤمن بأن للكلمة وزنًا.
هذه الجائزة ليست نهاية لمسار، بل بداية لمسؤولية أكبر. وسأحملها كأمانة، لا كتتويج، بل كتذكير دائم: أن لا نصمت. أن لا نعتاد. وأن نواصل الحفر في العمق، حتى حين يُراد لنا أن نكتفي بالسطح.