
















اهلا
هناكَ من الأسماءِ التي يُخَلِّدُها التاريخُ بِفعلِ أفعالهم، إن كانت سلبًا أو إيجابًا، وجرت العادةُ أن يُفاخرَ الواحدُ منّا بأنّه عاش في زمان فلان أو علان، وهذه المفاخَرةُ تُنسَبُ لأناسٍ عاصرناهم وتركوا آثارًا إيجابيةً في حياتِنا الخاصة، أو داخل مجتمعاتهم، وإن كنّا لم نلتقِ بهم مباشرة، ولم تكن لنا حكايات معهم، فما بالنا إن كنّا نعرفهم معرفةً شخصيةً مباشرةً. عندما يُذكَرُ اسمُ واحدٍ من هؤلاءِ على مسامِعِنا تستنفر ذاكرتُنا وتستعيدُ حكاياتِنا وذكرياتِنا معهم، ونحاول إعادةَ لَمْلَمَةِ بعض الذكرياتِ وإحيائها في الخيال.
عندما نُفَكِّرُ بالكتابةِ عن عزيزٍ رحلَ عن عالمنا، وعندما تكون هذه الكتابةُ مساهمةً في كتابٍ عنه سوف يساهمُ فيه عديدون من رفاقه وأصدقائه ومحبيه ومريديه، نتوقفُ مَلِيًّا في محاولةٍ منّا لِتَجَنُّبِ التكرارَ كون هذه الكتابات ستحملُ تقاطعاتٍ عديدةً، وبخاصةٍ عندما تكون الكتابةُ عن شخصيةٍ عامةٍ، ومناضلٍ وطنيٍّ وأمميّ كبير عاصرَ وساهم وأثّر في التاريخ الفلسطيني المعاصر لعدة عقود، وإنسانٍ متواضعٍ قريبٍ من قلوبِ الناس الذين حمل قضاياهم وهمومهم وناضل من أجلها حتّى الرمق الأخير من حياته.
هناك أسماءٌ كنّا نسمعها تتردّدُ على ألسنةِ الرفاقِ والأصدقاءِ كشخصياتٍ غيرِ عاديةٍ لها تأثيرها الجليّ والواضح في الحركة الوطنية الفلسطينية بشكل عام، وفي الحركة الشيوعية بشكل خاص، أو كنّا نقرأُ عنها أو لها في الصحفِ والمجلات. كان ذلك في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي حيثُ لم تكن مصادرُ وسائل الإعلام قد تعددت وتطورت كما هي في أيامنا الراهنة بعد، ومن تلك الأسماء التي كانت تتردد على الألسنة، وبخاصة من الرفاق الذين قُيّض لهم أن يدرسوا في جامعات ومعاهد الدول الاشتراكية (سابقًا) اسم الرفيق نعيم الأشهب.
في اليوم الحادي والعشرين من أيلول (سبتمبر) 2024 رحل عن عالمنا في العاصمة التشيكية (براغ) المناضل الوطني والأممي الكبير الرفيق نعيم الأشهب بعيدًا عن مدينة القدس التي يعشقها، وعن البلاد التي أفنى عمره مناضلاً على طريق نيلها حريتها وانعتاقها من أبشع احتلال في تاريخنا المعاصر، وإقامة دولة العدالة والقانون فيها.
يقول الرفيق نعيم الأشهب في مقالة له كتبها في ذكرى رحيل القائد الوطني والأممي الكبير والأمين العام الأسبق للحزب الشيوعي الأردني د. يعقوب زيادين في موقع (الحوار المتمدن) بتاريخ 3/6/2015 مايلي: {{وإذا كان سِفر الشيوعيين في الأردن حافلا وزاخرا بآيات التضحية والفداء في سبيل قضايا الشعب والوطن، والتحدي للقمع والإرهاب، فان اسهام أبي خليل في هذا السِفر المضيء وافر وغزير. وينبغي الاعتقاد بأن رصيده النضالي المتميز سيغدو قوة مثل وإلهام، لليوم والغد، وهذا هو الخلود بعينه لقائد ومناضل ثوري بارز}}.
وهذا القول ينطبق على قائله/كاتبه أيضاً. إنّ الرفيق الأشهب الذي انتمى إلى الحركة الشيوعية في فلسطين في سنيّ عمره المُبكرة كان من ذلك الجيل الذي عاصر أيام النكبة الفلسطينية الأولى بما حملته من تشتيت وضياع بعد فقدان جزء كبير من أرض فلسطين التاريخية آنذاك. وفي تلك المرحلة خاض الشيوعيون بقيادة القائد التاريخي للحركة الشيوعية في فلسطين، وفي الأردن لاحقًا، الرفيق طيب الذكر فؤاد نصّار، معركة إعادة ترتيب صفوف الشيوعيين فيما تبقّى من أرض فلسطين، وخوض معركة فضحِ تآمر النظام الرسمي العربي على الشعب الفلسطيني. لقد تعرّض ذلك الجيل إلى الملاحقة والقمع والاعتقال لسنوات طويلة، لكنّ ذكراهم ستبقى خالدة، وهذا هو أهمّ إرث يخلّفُه الإنسان ليعيش حياة الخلود بعد الرحيل.
السيرة الغيرية والتأريخ لمرحلة
من باب الوفاء للأشخاص وللتاريخ كتب الرفيق نعيم الأشهب عدة مقالات في ذكرى رحيل عدد من قادة الحركة الشيوعية في فلسطين والأردن. لقد كتب عن الرفاق فؤاد نصّار، عبد العزيز العطي، توفيق طوبى، يعقوب زيادين، وغيرهم (الحوار المتمدن). ومن خلال الكتابة عنهم مزج ما بين الخاص والعام، وتناول مآثرهم وأدوارهم في الحركة الشيوعية، وفي أحلك الظروف التي تعرض لها الشعبان الأردني والفلسطيني والمنطقة، وما تعرّض له ذلك الجيل من ملاحقة وقمع واختفاء وعيش في بيوت سريّة وسجن لسنوات طويلة.
لقد خرجت تلك الكتابات من خانة الكتابة عن شخص فرد إلى فضاء الكتابة عن مرحلة، ومن خلالها يمكن للمرء أن يقرأ تاريخ تلك المرحلة من خلال قراءته عمّا كُتِبَ عن هؤلاء الأشخاص. وعند الكتابة عن هؤلاء الرفاق وتجاربهم وأدوارهم كان الكاتب يستدعي شخصيات أخرى، فعند كتابته - على سبيل المثال – عن الرفيق العُطّي ترد تجارب وأدوار رفاق من أمثال: فؤاد نصّار، فهمي السلفيتي، خلدون عبد الحق، أحمد معروف، موسى جبران، فارس مسعود (نصاصرة) وغيرهم.
وفي معرض حديثه عن اعتقال الرفيقين العطي والسلفيتي وحبسهما في سجن عمّان المركزي (المحطّة سابقا) بين سجناء آخرين مطلع خمسينيات القرن الماضي، واستغلالهم تلك الظروف لنشر آراء عصبة التحرر الوطني (قبل تأسيس الحزب الشيوعي الأردني لاحقًا) وتقييماتها للوضع السياسي في البلاد، يذكر الرفيق الأشهب كيف تمكّن هذان الرفيقان من تنظيم عدد من السجناء. لقد كانت تلك التجربة من المآثر التي تُسَجَّل لذلك الجيل من الشيوعيين. وهنا يتوقف الرفيق أبو بشار عند ظروف تنظيم أحدهم، وكيف كان له دور بارز بعد خروجه من السجن في الحياة الحزبية، ألا وهو الرفيق فارس مسعود:
"... وهكذا، ألقيا (العطي والسلفيتي) البذور اﻷولى التي جرت رعايتها من قبل الوافدين الشيوعيين الذين لم ينقطع سيلهم إلى ذلك السجن الرهيب، وكان من الثمار المتنوعة لذلك أن كسب الحزب رفيقا متميزا، كان من أبطال أول إضراب في تاريخ سجن عمان صيف 1951، والذي كان رفاق الحزب المتعاقبون على هذا السجن قد عبأوا اﻷجواء لوقوعه، وشكّل نقلة نوعية في النضال لتحسين الحياة المزرية والبدائية في ذلك السجن، هذا الرفيق هو طيب الذكر فارس مسعود، من قرية بيت فوريك، قضاء نابلس، الذي ما أن أنهى محكوميته وخرج من السجن حتى التحق بالحزب. وحين أعاد الحزب بناء مطبعته السرية غدا بحاجة الى عامل مطبعة متمكن؛ وكان فارس مسعود "أبو طارق" قد عمل خلال فترة سجنه الطويلة نسبيا، في مطبعة السجن، التي كانت تطبع الكثير من المواد لدوائر الحكومة والجيش. وهكذا، باشر "أبو طارق" عمله في مطبعة الحزب الجديدة اعتبارا من 30/11/1953 بعد أن تزوّج، كما أشار عليه الحزب، واختفى في البيت الحزبي لسنين طويلة".
إنّ الكتابة عن هؤلاء الرفاق، وإن كان نابعا من قيمة الوفاء النبيلة لهم ولتاريخهم النضالي، إلا أنّه أيضًا يؤرخ لمرحلة عصيبة من المراحل التي عصفت بالقضية الوطنية الفلسطينية، وللدور الذي اضطلع به الشيوعيون الفلسطينيون للتصدى للمؤامرة الكونية التي حيكت ضد الشعب الفلسطيني والمنطقة بأسرها وكشف مآلاتها. كما أنّها تدخلُ في إطار تعريف الأجيال اللاحقة لذلك الجيل بالظروف التي عاشها الجيل المؤسِّسُ كدروسٍ لهم من أجل البناء عليها، وزرع قيّم الصمود والإصرار على إكمال مسيرتهم الكفاحية.
الدفاع عن الموقف
رغم مرور سبعة وسبعين عاما على قرار التقسيم (29/11/1947) وما آلت إليه القضية الفلسطينية بعد ستة وسبعين عامًا من النكبة، ما يزال هناك من المثقفين والمفكرين والسياسيين مَن يُعيب على عصبة التحرر الوطني القبول بالقرار المذكور، وكأنّ هذا القبول هو من أقام دولة الاحتلال، وليس المؤامرة الكونية التي كانت أكبر من قدرات الشعب الفلسطيني في ظل غياب قيادة وطنية حكيمة قادرة على قراءة احتمالات وسيناريوهات المستقبل.
في كتاباته وأحاديثه يُقِرُّ الرفيق نعيم الأشهب بأننا لا ندعي كغيرنا بأننا نمتلك الحقيقة وحدنا فقط، فنحن بشر نصيب ونُخطئ، إلا أنّ قبول عصبة التحرر الوطني بقرار التقسيم كان مصيبًا. لقد رفضت العصبة القرار فور صدوره بسبب الغُبنِ والاجحاف الذي يطال حقوق الشعب الفلسطيني الأصيلة والمشروعة في أرضه، إلا أنّ التطورات اللاحقة والتي أعقبت صدور القرار وقراءة واقع تلك المرحلة، وكشف المؤامرة الكونية على الشعب الفلسطيني، وكذلك تآمر الأنظمة الرسمية العربية، دفع قيادة العصبة لإعلان قبولها به كونها كانت الأكثر قدرة على تحليل الواقع وقراءتها للمستقبل، حيث قدّرت تلك القيادة أن قبول أهون الشرَّين سيحمي الشعب الفلسطيني من التشرد والضياع ويجنّبه المزيد من شرور النكبة، كما أنّه يجسد إقامة الدولة الفلسطينية وفق ما رسمه القرار المذكور. وفي السنوات اللاحقة تم ملاحقة الشيوعيين، وقمعهم لإتمام فصول المؤامرة التي كانت تهدف بالأساس إلى منع قيام دولة فلسطينية. وواصل الرفيق "أبو بشار" التمسك بمبادئ الحزب ومواقفه والدفاع عنها حتى أيامه الأخيرة بجرأة ووضوح وبروح نقدية.
وفي إحدى ردّه على الافتراءات على دور الشيوعيين الأوائل كتب الرفيق الأشهب ما يلي:{{ لم نزعم، يوما، نحن الشيوعيين، بأننا ملائكة معصومة عن الخطأ، فنحن بشر، نخطئ ونصيب. لكن من حقنا أن نكون مرتاحي الضمير لأننا، في المفاصل المصيرية من تاريخ القضية الفلسطينية، كانت لنا مواقف متميّزة زكتها الحياة. كنا الوحيدين الذين قبلوا بقرار التقسيم الصادر في 1947/11/29، ليس ساعة صدوره، وباعتباره عادلا وغير ظالم، وإنما في شباط 1948، حين بدا واضحا لكل ذي بصيرة أن الخيار لم يعد بين كل فلسطين أو التقسيم، وإنما بين التقسيم أو التشريد". (الجوار المتمدن 14/12/2014).
جرأة في طرح المواقف
بالإضافة إلى امتلاكه مقومات وضوح الرؤية، امتلك الرفيق نعيم الأشهب الجرأة في طرح الموقف ببصيرة ثاقبة، وبعقلية نقدية علمية، وعلى قاعدة تغلييب المصلحة الوطنية على أيّ مصلحة أخرى. لقد كتب الرفيق أبو بشار عشرات المقالات السياسية التي تناولت أحداثا راهنة تركت آثارها السلبية على القضية الوطنية الفلسطينية مسمّيا الأشياء بأسمائها، دون مجاملة لأحد، وبلغة لا تحتمل التأويل.
كانت للرفيق الأشهب مواقفه الواضحة والصريحة في كتاباته حول الإسلام السياسي، اليسار الفلسطيني، والانقسام الفلسطيني ــــ الفلسطيني، والعلاقة المقلوبة بين منظمة التحرير وبين السلطة الفلسطينية، وعلاقة رأس السلطة بالرجعية العربية على حساب علاقته بمحور المقاومة، هذه الرجعية التي تعمل على تصفية القضية الفلسطينية، وكذلك علاقة السلطة بالاحتلال، وبخاصة ما يتعلق بموضوع التنسيق الأمنى وحصر أشكال حسم الصراع معه بمفاوضات عقيمة دون غيرها من الوسائل. كما لم يغفل الكتابة عن الفساد المستشري في أجهزة السلطة، وتناول أسباب فشل القيادات الفلسطينية منذ فترة ما قبل النكبة وحتى يومنا هذا في حسم الصراع مع العدو. وباختصار كان "أبو بشار" يمتلك قدرة عالية على التقاط نبض الشارع، وهمومه وتطلعاته والكتابة عنها بجرأة عالية.
الهوية الفكرية للحزب السياسي
ذات يوم سألني الرفيق "أبو بشار" إن كانت تتوفر في مكتبتي الخاصة كتب عن الديالكتيك، فأجبته بأنني سأبحث فيها لأنّ مكتباتنا الخاصة تماثلت معنا في الحلّ والترحال، فمكتبتي انتقلت من الكويت، إلى عمّان، ثمّ إلى البلاد، وفي الحقيقة لا أدري بالضبط أيّ كتب منها ملصت من تحت عين الرقيب على الحدود. ومن سؤاله فهمت أنّه كان بصدد إعداد كتاب أو كرّاس عن الديالكتيك، وهذا الأمر يعكس بالتأكيد اهتمامه بالجانب النظري لتحديد هوية الحزب السياسي الثوري.
لم تتوقف المساهمات الفكرية للرفيق نعيم الأشهب عند كتابة مقالات سياسية تتناول الحدث الراهن، بل تعدت ذلك بكثير حيث أنجز دراسات وأبحاثا فكرية عديدة الحزب السياسي، الإسلام السياسي، ماركس والتجربة السوفييتية وغيرها من الدراسات والأبحاث. وهنا سوف أشير إلى كراس "الحزب السياسي" الذي كتبه "أبو بشار" حول فشل ثورات الربيع العربي التي اندلعت مطلع عام 2011 في العديد من البلدان العربية بسبب غياب الحزب الثوري المؤهل والقادر على قيادتها.
يرى الرفيق الأشهب أن أيّ ثورة تسعى لتحقيق أهدافها يفترض أن يتوفر فيها عاملان: موضوعي وذاتي. و"حين انفجر الحراك الشعبي العربي بالزخم الرائع الذي أذهل المراقبين، كان هذا أسطع شهادة على نضوج العامل الموضوعي، أي وصول المحكومين إلى القناعة بأنهم ما عادوا يحتملون العيش تحت نفس الشروط، ولا عاد الحكام، بدورهم، قادرين على مواصلة الحكم بنفس الأساليب. وقد تحققت نقطة التقاطع هذه كحصيلة لتراكمات على مدى عقود من المعاناة والتهميش والقهر السياسي والإجتماعي والإقتصادي، حتى بلغت نقطة الغليان والإنفجار".
ويضيف: "لقد انفجر الحراك الشعبي العربي في لحظة نضج فيها العامل الموضوعي نضوجا كاملا، لكن هذا الإنفجار جاء في وقت غاب فيه العامل الذاتي المتمثل بالحزب الثوري المجرّب والقادر وحده على قيادة مثل هذه العملية التاريخية بنجاح نحو الهدف المنشود؛ ولذلك بدا وأن قوى رجعية ومحافظة قد اختطفت الثورة؛ لكن هذا الإختطاف يلخص، بدوره، حقيقة مزدوجة: من الجانب الواحد غياب الحزب الثوري المؤهل لقيادة مثل هذه العملية التاريخية؛ ومن الجانب الثاني حضور وجاهزية المختطف، ونعني هنا، في الأساس، تنظيم الإخوان المسلمين".
ويحدد الرفيق الأشهب مواصفات الحزب المؤهل والقادر على قيادة الثورة التي تداخلت فيها العوامل السياسية والاقتصادية والاجتماعية بالحزب الثوري الراديكالي، الذي ينتمي ويمثل مصالح الطبقة العاملة وبقية الطبقات والفئات الكادحة، التي عانت، وعلى مدى عقود من الفقر والتجويع والإرهاب والتهميش .وأما غياب هذا الحزب عن قيادة ثورة التغيير هذه فيعود بدوره، إلى عاملين: موضوعي وذاتي. "موضوعيا، كان الحزب الثوري أكثر من عانى من إرهاب وملاحقة الأنظمة المتعاقبة منذ نيل الاستقلال السياسي، بينما العامل الذاتي مركب من عدة عناصر، منها انعدام الديموقراطية داخل هذا الحزب، وعدم تجديد قياداته في الوقت الملائم - مع الأخذ بالحسبان مضاعفات المطاردة والسرية في تعميق هذا المنحى غير الديموقراطي - ومنها ضعف الإستقلالية الفكرية لهذا الحزب أمام تأثيرات المنظومة الفكرية للحزب الشيوعي السوفياتي، والمكرّسة، في المحصّلة النهائية، لخدمة أهداف الدولة السوفياتية، وذلك من منطلق التماهي سياسيا وفكريا مع أول حزب نجح في إختراق النظام الرأسمالي وأقام نظاما جديدا يمثل الهدف المشترك لجميع أحزاب الطبقة العاملة؛ وتأثرا بأهمية الدور التضامني الذي كان يلعبه الإتحاد السوفياتي في دعم قضايا شعوبنا العربية، شأن الشعوب المضطهدة الأخرى".
ويخلص إلى القول أن هذا الوضع الثوري الناشيء يضع الأحزاب الشيوعية في البلاد العربية وغيرها من التنظيمات التي تعتبر نفسها ثورية وتقدمية، وجها لوجه، أمام تحد مصيري: إما أن ترتفع إالى مستوى المعركة التي فجّرتها الجماهير عفويا، ولم يكن لهذه الأحزاب والتنظيمات فضل في ذلك، وهذا يستلزم بالضرورة حدوث انتفاضات داخل هذه الأحزاب والتنظيمات تشفيها من أمراضها التي تسببت في ترهلها وتخلفها عن حركة الجماهير "وإلاّ، فلن يكون مصيرها سوى الإندثار، والتواري عن مسرح التاريخ".
أن تعيش في حضورهم
كان اسم الرفيق نعيم الأشهب، كما ذكرت سابقًا، يتردد على ألسنة الرفاق الذين درسوا في جامعات ومعاهد الدول الاشتراكية، إلا أن معرفتي المباشرة به تعود إلى عام 1993 بعد عودته إلى البلاد بتاريخ 3/5/1993 بعد إبعاد قسري عنها امتد لاثنتين وعشرين سنة. كانت بدايات تلك المعرفة عندما كان يتردد على مقر أسبوعية "الطليعة" المقدسية في حيّ الشيخ جرّاح، ثمّ تطوّرت هذه العلاقة في السنوات اللاحقة.
في لحظات كهذه تجتهد الذاكرة علّها تتمكن من استعادةِ بعض المواقف والحكايات لرسم صورة عن الشخص المحكي عنه. منذ عاد الرفيق "أبو بشار" إلى مدينة القدس وحتّى غادرها طوعًا في سنيّ عمره الأخيرة للعيش في مدينة براغ عاش في بيت مُستأجر، ولم يكن يمتلك سيارة خاصة، حيث كان يتنقل في المواصلات العامة، وعندما كان يتردد على مكاتب جمعية (القانون) حيث عملت فيها لمدة تسع سنوات كانت آثار الكدمات والخدوش ظاهرة على رأسه، وكنت أقول للرفاق بأنّ هذه الآثار نتيجة صعوده ونزوله من سيارات "الفورد" حيث كان أيضا دائب الحركة والنشاط.
يُجمِعُ كلّ مَن عرف الرفيق الأشهب أنّه عاش حياته بأعلى درجات الزهد والبساطة والتواضع، وكان من القادة الذين لا يضعون الحواجز بينهم وبين ناسهم، وكانت تغلب على شخصيته السمات الشعبية في تعامله اليومي مع كل من عرفه. بعد انقطاع لسنوات التقيت بالرفيق إبي بشار في مقر حزب الشعب الفلسطيني في نابلس حيث كرّم الرفاقُ عددًا من صحافيي المحافظة، وكان ذلك في خريف 2010، وعندما سلّمت عليه قال لي مازحا: "لماذا يقولون أنك لا تظهر إلا في الليل"! واعتبرت قوله دعابة تحمل بعض العتب.
لقد عشتُ في حضور ذلك الجيل المؤسس للحركة الشيوعية في فلسطين والأردن، ذلك الجيل الذي قبض على جمرة القضية الوطنية والفكرة، وتميّزت حياة ذلك الرعيل بالبساطة والتقشف والصلابة ونكران الذات، فلم نسمع من أحد منهم أنّه استخدم صيغة المفرد عندما كان يتحدث عن الماضي، بل كانوا يتحدثون بصيغة الجمع.
لروح الرفيق نعيم الأشهب، ولأرواح رفاقنا الذين رحلوا السلام والسكينة وخلود الذكرى
*كاتب وشاعر مقيم في نابلس
------------------------
نُشِرَ هذا النص في كتاب "نعيم الأشهب... قائد ومفكر من جيل الرواد" إعداد: محمود شقير و حيدر أبو غوش، وإصدار: المركز الفلسطيني لقضايا السلام والديمقراطية"...
شكرا للرفيق الكبير محمود شقير الذي يسجّل في كل يوم صفحة جديدة من صفحات الوفاء لجيل من القادة الذين نذروا حياتهم للدفاع عن قضيتنا الوطنية ونصرة فقراء شعبنا...
كل التقدير وجزيل الاحترام للرفيقين العزيزين محمود شقير وحيدر أبو غوش على هذا الجهد الكبير والمُقَدَّر