















اهلا قراري بالخروج الى التقاعد المبكّر
بالأمس قبل سبعٍ وثلاثين سنة بدأتُ مسيرتي التعليميّة معلّمة للّغة العربيّة التي أعشقها بعد حصولي على اللقب الأول في اللغة العربيّة في جامعة حيفا، في مدرسة اعداديّة يهوديّة في مدينة ايلات وذلك بعد أن رفضت وزارة المعارف تعييني في المدارس العربيّة في منطقة سكني؛ بسبب انتماء زوجي السياسيّ حيث كان سكرتيرًا للحزب الشيوعيّ في قريتنا طرعان. لكنّي قررت عدم الاستسلام ومواظبة البحث عن عمل في جنوب البلاد.
كان ذلك عام 1986، وكان عمري اثنين وعشرين عاما فقط. حيث تزوجت في شهر آب وسافرت وزوجي للعيش في ايلات ومزاولة مهنة التعليم التي أهواها في بداية شهر أيلول من ذلك العام.
لم يكن هذا القرار سهلًا عليّ فقد انتقلت للعيش مع زوجي في بلدٍ ناءٍ، لا أعرف فيه أحدًا، وكان عليّ أن أتأقلم مع حياة زوجيّة جديدة، وعمل جديد وبلد جديد ووضع اقتصادي صعب للغاية.
بعيدةً عن أهلي وأهل زوجي بدأت مسيرتي المهنيّة، كان يومي الأول في المدرسة الاعداديّة لا ينسى ولا زال محفورًا في ذاكرتي.
إذ دخلت معي إلى غرفة التدريس مركّزة الطبقة وعرّفتني على الطلاب بأنني عربيّة وسأعلّمهم اللغة العربيّة. عندها ثار الطلاب وصرخوا بأعلى صوتهم: نحن نكره العرب ولا نريد أن نتعلّم العربية، ثم غادر معظمهم غرفة التدريس.
كان لردّ فعل التلاميذ وكلامهم الجارح وقعٌ كبيرٌ في نفسي؛ فأصابني الذهول، وتملّكتني الصدمة، وانفجرت بالبكاء. وقفتْ إدارة المدرسة الى جانبي وقدّمت لي الدعم والتشجيع وحاولت اقناع الطلاب بضرورة الانصياع لقوانين المدرسة والالتزام بها لكن دون جدوى.
وقد باءت كلّ محاولاتي بتحبيب الطلاب باللغة العربية بالفشل.
كان عامي الأوّل في التدريس عام 1986/1987 هو الأصعب في مسيرتي المهنيّة. كنت أعود كلّ يوم من مدرستي وأبكي بحرقة، وحين ساء وضعي النفسيّ والصحيّ عرض عليّ زوجي العودة إلى بلدتنا والبحث مرّة أخرى عن عمل لي، فلعلّ وعسى..!!!
لكنّي رفضت ولم أستسلم وقرّرت خوض معركة بقائي وإثبات وجودي وتغيير نظرة الطلاب اليهود السلبيّة إلى شعبي الفلسطينيّ، كان هذا بالنسبة لي عملا وطنيا أقدّمه لأبناء شعبي. وحصل أن انتقلت في السنة الثانية إلى مدرسة إعداديّة ثانية في نفس المدينة، وهناك طلبت من المدير ومن مركزّة الطبقة عدم ذكر هويتي وقوميتي للطلاب، في هذه السنة حاولت تحبيب الطلاب في اللغة العربية باستخدام الالعاب التعليمية والاغاني والرسومات وغير ذلك، وقد ساعدتني في ذلك معلمة زميلة لي (مزال كتسير) التي دعمتني ووقفت إلى جانبي ولا زالت صديقتي حتى يومنا هذا.
بدأ الطلاب ينجذبون إلى حصّة اللغة العربيّة ويجدون فيها متعةً كبيرةً، فكسبت محبّتهم، وعندما كشفت لهم عن هويتي في منتصف العام الدراسيّ؛ ذهلوا وعجبوا من ذلك؛ فالمرأة الفلسطينيّة كما قال الطلاب لي، جاهلة غير متعلمة سوداء اللون مُحجّبة وغير جميلة.
في السنة الثالثة لعملي في ايلات 1989 تذكّرت وزارة المعارف فجأةً أنني لم أخدم في الجيش الاسرائيليّ، لذا لا أستحق المكافآت التي يتلقّاها المعلمون في ايلات في مناطق التطوير، وهذه المكافآت تشمل شقة سكنيّة، علاوة في المعاش بسبب بعد المدينة عن مركز البلاد وأقدميّة في سلك التعليم لمدّة ست سنوات. كان الهدف من هذه المكافآت تشجيع المعلمين من مركز وشمال البلاد للقدوم إلى المدينة والعمل فيها.
تلقيت رسالة وزارة المعارف بقرارها بإيقاف جميع هذه المكافآ ت بصعوبة وذهول تام. ما الذي جرى؟ لماذا الآن بالذات؟ توجّهت إلى نقابة المعلمين التي توجّهت لوزارة المعارف واعترضت على هذه السياسة المجحفة بحقّي لكن دون جدوى. عندها قرّرت وزوجي العودة الى بلدتنا طرعان، لكن بلديّة ايلات وإدارة المدرسة تمسّكت بي، وقررت البلديّة تعويضي عن هذه الخسارة بمنحي شقّة سكنية تابعة للبلديّة دون أن أدفع أجرة السكن، كما قامت بتأثيثها. وعندما لمست تمسّك البلديّة والمدرسة والطلّاب بي قررت البقاء رغم الخسارة الماديّة في راتبي.
أربع سنوات قضيتها في هذه المدرسة، حققت فيها نجاحًا كبيرًا، لكنّ هذا النجاح كان دومًا محفوفا بالصعوبات، فكثيرًا ما كانت تؤثّر الأحداث السياسيّة في البلاد على الطلاب، وخاصّةً بعد اندلاع الانتفاضة الأولى للشعب الفلسطينيّ عام 1987؛ فكثيرًا ما كان الطلاب يرفضون تعلّم اللغة العربية، وكنت أبدأ معركتي معهم من جديد؛ خاصّةً بعد كل عمليّة فلسطينيّة أو أي حدث سياسيّ أو عسكريّ. رغم كلّ ذلك فقد نجحت في مهمتي بل وجعلت العديد من الطلاب يستمرون في تعلّم اللغة العربيّة في المدرسة الثانويّة علمًا أنها كانت لغة اختياريّة، حتّى أنّ بعضهم أتمّ دراسته الأكاديميّة بموضوع اللغة العربيّة وآدابها.
بعد خمس سنوات من عملي في ايلات وبعد أن بلغ ولدي هشام سن الرابعة، وولدت ابنتي روان قررت العودة إلى بلدي لتربية وتعليم أبنائي في مدارس عربيّة حفاظًا؛ على هُويّتهم وخوفًا من ضياعها.
تجربتي في ايلات كانت صعبة للغاية، لكنها أكسبتني ثقة كبيرة في النفس وأدركت أن التصميم والإرادة ،الثقة بالنفس، التحدّي، تحديد الهدف، وضوح الرؤيا والايمان بما نقوم به، من أهم عوامل النجاح.
تابعت مسيرتي المهنيّة بعد عودتي إلى بلدي طرعان، تعلّمت أساليب وطرق تدريس حديثة، تابعت تعليمي الجامعيّ للّقب الثاني في التربية في جامعة حيفا ثم تعلّمت مساق إدارة في كليّة أورانيم. تعيّنت بعدها مرشدة في المدارس العربية لطرق التعليم البديل ثمّ مرشدة لوائيّة لطرق التعليم البديل وللخطّة الخماسيّة في الوسط العربي والتي أقرتها وزارة المعارف من أجل تقليص الفجوات التعليميّة بين الوسطين العربي و اليهوديّ.
واجهتني الكثير من الصعوبات في عملي في الارشاد، ولعلّ أصعبها رفض وجودي كمرشدة في مدرستي التي كنت أعمل فيها، لكني وبعد جهود كبيرة وعدم الاستسلام نجحت في ايصال رسالتي الى غالبية المعلمين والمعلمات وقدتُ مدرستي نحو أساليب تعليميّة حديثة. كما حقّقتُ نجاحًا كبيرًا في قيادتي لطاقم المرشدات اليهوديّات والعربيّات اللاتي كُنّ يعملن في الارشاد في مدارسنا العربية.
عام 2005/ 2006 استلمت إدارة مدرسة الرينة الابتدائيّة "أ" بعد فوزي بالمناقصة .
السنة الاولى من إدارتي كانت صعبة للغاية، فلم يكن من السهل على طاقم المعلمين والأهل قبول مديرة من خارج القرية، هذا إضافةً إلى الصعوبات الكبيرة في البيئة التعليميّة،فالمدرسة صعبة جدًّا وكبيرة جدًّا ، تحتوي على ثمانية وعشرين صفًّا و ثمانمائة طالب من صف البستان حتى صف الثامن، وقد تعاقب على إدارتها عدّةُ مديرين؛ وذلك بسبب صعوبة المدرسة وموقعها الموجود في بيئة تميّزت بوضعها الاقتصاديّ والاجتماعيّ والثقافي الصعب جدًّا.
إضافة إلى مبنى المدرسة غير المريح والذي ينقصه الكثير من الغرف الضروريّة، والمستلزمات الأساسية: منها الضعف الكبير في شبكة الكهرباء وعدم مقدرة السلطة المحليّة على توفير احتياجات المدرسة وذلك بسبب ظروفها الاقتصاديّة الصعبة. كلّ هذا أدّى إلى رسوب المدرسة في جميع المواضيع التي امتحن فيها الطلاب من قبل وزارة المعارف. فكانت مدرسة حمراء تعليميّا وكذلك حمراء في المناخ التعليمي، أو ما يسمى الاقليم المدرسيّ.
كان عليّ مواجهة كلّ ذلك وتصليحه بل وإثبات قدرتي في الادارة والقيادة . حدّدت رؤيتي للمدرسة ووضعت الأهداف مع الطاقم وبدأت العمل على تقريب المعلمين من بعضهم البعض، وزيادة التعاون بينهم وزرع بذور الأمل والقدرة على النجاح في نفوسهم، وتقريب الأهل من المدرسة بعد أن فقدوا ثقتهم بها. سارعت في اجراء انتخابات للجنة أولياء أمور الطلاب التي عملت إلى جانبي وتعاونت معي ومع إدارة المدرسة تعاونًا تامًّا،وقدّمت للمدرسة دعمًا ماديًّا ومعنويًّا كبيرًا. فكانت اللجنة شريكة لنا في العملية التعليميّة والتربويّة.
ثمّ بدأت العمل على تغيير أساليب التدريس وتوفير الاستكمال و الإرشاد اللازمين للمعلمين والتواصل مع مفتشي المواضيع الأساسيّة لزيارة المدرسة ودعمها وتوفير التوجيه المهنيّ لطواقم التدريس، كما قمت وطاقم المعلمين بوضع دستور للمدرسة يحدّد صلاحيات وواجبات كل من الطالب والمعلم والأهل.
ورغم كلّ الصعوبات والعراقيل وخسارتي في الوزن (8 كيلو) في السنة الاولى لإدارتي ورغم توسّل زوجي وعائلتي لي بتركي المدرسة إلا أنني صمّمت على البقاء ومواجهة الصعوبات حتى تحقيق النجاح. وهذا ما حصل بعد فترة وجيزة، حيث سادت المدرسة أجواءٌ تعليميةٌ مريحةٌ بين الطلاب وبين المعلمين والاهل، أسفرت عن ارتفاع معدّل المدرسة في امتحانات الوزارة ارتفاعا فاق المعدل في الوسط العربي، بل وحصلت المدرسة على العديد من الجوائز.
خلال عملي في ادارة وقيادة المدرسة تمكّنت من التأثير على جميع التابعين لي لكى نحقّق الأهداف المرجوة . اتّبعتُ أُسلوبَ القيادة الديموقراطيّ حيث أشركتُ المعلّمين في عمليّة صنع القرار والتخطيط ووضع سياسة المدرسة، آمنت بقدرات المعلّمين وحفّزتهم على الابداع وإجراء تغيّيرات ايجابيّة في عملهم وفي قناعاتهم وسلوكيّاتهم وتعاملهم مع بعضهم البعض ومع الطلاب والأهل وجعلت القيم الانسانيّة والمجتمعيّة والمهنيّة في سلّم أولويّاتنا في المدرسة. فكانت قيادتي لهم شخصيّة ومباشرة تنبع من ايمان قويّ برسالتي المقدّسة التي أحملها بكلّ صدق وأمانة.
بعد ست سنوات من إدارتي لتلك المدرسة ، بنجاح كبير، وفي عام 2013 ، فزت بمناقصة إدارة المدرسة الابتدائية "د " في قريتي طرعان. كانت المدرسة جديدة تحتوي على اثني عشر صفا ويبلغ عدد طلابها( 288) مائتين وثمانية وثمانين طالبا، وأربعة وعشرين معلما ومعلمة انتقلوا اليها من مدارس مختلفة من القرية وخارجها.
كان حلمي أن أجعل مدرستي نموذجيّة متميّزة ومختلفة عن باقي المدارس. لذلك جئت طاقمي برؤية تعليمية جديدة وهي " نظرية جاردنر في تعدد الذكاءات" وبدأت بإرشاد الطاقم وتوفير الاستكمالات اللازمة لهم في هذا المجال. وقمنا بتحضير بيئة تعليميّة تناسب هذه النظرية. فأدخلنا الكثير من البرامج المنهجيّة واللا منهجيّة مثل: العزف والموسيقى، الفنون والمسرح، العلوم، الروبوتيكا، الزراعة، الألعاب التفكيريّة والشطرنج وغيرها.
وبما أنني أؤمن أن على الإنسان أن يتخلّى عن منصبه وهو في أوج نجاحه وعطائه؛ فقد قرّرت الخروج إلى التقاعد المبكّر، متمنية ان يتم تسليم دفّة المركبة لشخص يتمتع بالمهنية والمسؤولية والكفاءات الادارية والتنظيمية والتربوية العالية؛ليتابع مسيرتي بل ويزيد عليها ويقود المدرسة نحو مزيد من التميّز والامتياز.
وأخيرا لا بدّ من كلمة شكر أوجهها الى عائلتي أولا: زوجي عبد المجيد شعبان داعمي الأول في مسيرتي المهنيّة، وأولادي الذي تحمّلوا انشغالي عنهم، طاقمي الرائع في المدرسة الابتدائية "د " طرعان الذي تعاون معي تعاونًا منقطع النظير، وأخصّ بالشكر نائبي المتفاني الاستاذ ربيع دحلة، وطاقم الابتدائية أ في الرينة ونائبي الحاج رضوان طاطور الذي كان سندا وداعما لي، شكري لجميع أصحاب الوظائف في المدرستين.
شكري العميق لمفتشيْ المدرسة الابتدائية "د"، د. عمر حجوج ود. هاني كريدين ، ومفتشيْ المدرسة الابتدائيّة أ في الرينة: الأستاذ أحمد بدران مفتش اللواء للوسط العربي ود. صبّاح صبّاح، وجميع مفتشي المواضيع ،على دعمهم الكبير لي وللمدرستين.
شكري وتقديري للمجلس المحليّ في الرينة والمجلس المحلي السابق في طرعان برئاسة السيد عماد دحلة والحالي برئاسة السيد مازن عدوي، وأخصّ بالشكر مدير قسم المعارف السيد سامي عدوي ومحاسب المجلس السيد محمد عدوي على دعمهم الكبير لمدرستنا وإيمانهم برؤيتنا التربوية.
شكرًا وتقديرًا لجميع المؤسسات في بلدتنا التي دعمت برامج المدرسة ونشاطاتها: المكتبة العامة بإدارة نيروز عدوي، المركز الجماهيري ومديره السابق جعفر صبّاح، نادي المسنين، قسم الرفاه الاجتماعيّ في قرية الرينة وفي طرعان ومديرته فريال سلامة، المجلس النسائي، جمعية بطيرم وغيرها من المؤسسات…
شكرًا من القلب لجميع أعضاء لجان أولياء أمور الطلاب في مدرسة الرينة أ وفي المدرسة الابتدائية د طرعان، على ما قدموه من دعم كبير ماديّ ومعنويّ وساهموا مساهمة كبيرة في نجاح المدرستين.
شكري لزملائي المديرين وزميلاتي المديرات في قريتي طرعان وفي قرية الرينة وفي سائر البلاد، على التعاون المثمر الذي كان بيننا.
كلّ الحبّ لجميع طلابي الذين علمتهم خلال مسيرتي الطويلة. من أجلكم بذلت كلّ الجهود حتى أغرس حبّ اللغة العربيّة في نفوسكم وأوفّر لكم تعليمًا حديثًا يواكب العصر، وأساهم في صقل شخصياتكم المستقلّة المبنية على الثقة والاعتزاز بالنفس، وغرس القيم الإنسانية السامية والمجتمعيّة في نفوسكم.
الحمدلله رب العالمين الذي قدّرني على تأدية رسالتي بكلّ حبّ ونشاط وإخلاص ومسؤوليّة🙏
أتمنى أن يحتسب الله كلّ ما قدّمته من خدمة طلابي ومجتمعي في صالح أعمالي، وأن يذكرني طلابي دومًا بالخير والمحبة🙏
أسأل الله أن يوفقني في طريقي الجديد الذي سأختاره؛ وأتابع مسيرتي في الإبداع والتأليف؛ لتكون كتبي وإصداراتي بوصلةً للخير والقيم النبيلة، ولزيادة الوعي للهويّة والانتماء والتمسك بالوطن لدى أطفالنا وشبابنا وشابّاتنا وكافة الشرائح في مجتمعنا وبلادنا.