
















اهلا فؤاد نقّارة:
مئة صباح من الذّاكرة.. قراءة في كتاب إشراقات حيفاويّة.
في كلّ صباح، تتجلّى على شواطئ حيفا المليئة بالجمال، لحظة بداية جديدة للطبيعة وللرّوح الإنسانيّة التي تستقبل النّور، وتحوّله إلى حكمة وتأمّل، ومع ظهور أوّل أشعة الشّمس من خلف البحر الأزرق، تبدأ هذه الأشعة بغمر التّلال الهادئة، ما يخلق مشهدا يجسّد الجمال ويزرع الأمل.
هذه اللّحظات.. تمثّل مدخلا لفهم العلاقة المستمرّة والجوهريّة، الّتي تربط بين الإنسان والمدينة وذاته. في هذا الإطار تحديدا، يقدّم لنا المصوّر فؤاد أبو خضرة كتابه "إشراقات حيفاويّة"، الّذي يعد سجّلا بصريّا وتوثيقيّا لسحر المدينة، ونبضها الدّاخليّ الّذي لا يدرك إلا بوجدان مرهف.
يصطحبنا فؤاد أبو خضرة في هذا الإصدار عبر رحلة، خصّصها لتوثيق مئة صباح حيفاويّ، ترتدي فيها المدينة حلّة جديدة مع كلّ إشراق، ففي اللّحظة الّتي تستيقظ فيها حيفا لتباشر يومها، يبدأ بمزاوجة فنيّة بين التقاط الصّور وتسجيل الخواطر، مدوّنا بعض العبارات.
يؤكّد في مقدّمته، أنّ ذلك التحوّل الخفيّ الّذي يطرأ على المدينة يوميّا، يعبّر عن إحساس عميق بأن الضّوء لا يقتصر على الإنارة، بل يعيد تشكيل حيفا ويرسمها من جديد على مقياس القلب والدهشة.
لقد اختار أن يجمع بين فنّ الصّورة وجمال الكلمة، ففي كلّ صورة مرئيّة في هذا العمل، نعثر على خاطرة صادقة، كتبت بمحبّة خالصة للمدينة وعشّاقها، وبالنسبة له، فهذه الخواطر هي تمثيل لحوار داخليّ عميق، حيث يعبّر عن مكاشفة وجدانيّة بينه وبين المدينة.
هي محاولته الفنيّة الخاصّة؛ لإضفاء البعد الجماليّ على المشهد، محوّلا اللّقطة البصريّة العابرة إلى فكرة ثابتة وراسخة.
يتكوّن هذا الإصدار من مئة صفحة من الحجم الكبير، وهو يمثّل حصيلة توثيق مئة يوم من شروق الشمس، سجّلها أبو خضرة بعدسته المتقنة. هذه العدسة معروفة ومألوفة لدينا جميعا في الأوساط الثقافيّة والاجتماعيّة؛ إذ يظهر تعلّقه الشّديد بها من خلال حضوره الدّائم في كلّ محفل، وكلّ ندوة، وكلّ مناسبة، يلتقط بكاميرته أجمل اللّحظات وأكثرها تعبيرا، وبمحبّة خالصة وتطوّع تام، مساهما بذلك في إثراء الذّاكرة الجماعيّة للمشهد الثقافيّ والاجتماعيّ في المدينة.
إنّ شغفه بفنّ التصوير لا يتوقّف. وهو أيضا.. يصمّم دعوات النّادي، وجميع التّسجيلات المرئيّة المتعلّقة بالدّعوات الّتي تشاهدونها على صفحتنا، وهو يقدّم ذلك بإخلاص وتفانٍ لا يفتر.
إنّ تجربته الكتابيّة هذه، ولدت من رحم عشقه العميق لحيفا؛ فكلّ سطر خطّه، وكلّ صورة التقطها، كانت رسالة صباحيّة أرسلها إلى أصدقائه ومحبّيه.
من هنا، ينجح "إشراقات حيفاويّة" في تحقيق معادلة الفكرة الّتي يمتزج فيها جمال حيفا بصدق الكلمة وقوّة الصورة، ليقدّم وجبة صباحيّة دافئة، تشبع القلب قبل البصر، وتدعو للاستيقاظ الروحيّ مع كلّ فجر، وتأمّل عظمة المدينة.
لقد استطاع بعدسته المحبّة وكلماته الرقيقة، أن يجمع بين مهمّة المصور والكاتب؛ لينتج لنا كتابا يوثق جزءًا من همس حيفا الصباحيّ، الذي لا يسمعه إلا من يعشقها ويتناغم مع إيقاعها. إنّه كتاب يستحق أن يصاحب فنجان القهوة الأوّل من كلّ صباح، وهو إهداء لكلّ من يرى في الضوء أملا، وفي المدينة حكاية.
يكتب (ص 65): "سلاما على من كتب الحروف فأتقن جمال رسمها، وسلاما على من قرأ الحروف فأبدع فهمها، فتعانقت الأرواح دون أن ترى بعضها".
تجسّد هذه الخاطرة المعبّرة، احتفاءً رفيعا بالقوة الرّوحيّة للّغة، وتؤكّد على أنّ الكتابة والقراءة هما وسيلتان للتّعبير والتلقّي، وفعلان مقدّسان من التفاعل الوجدانيّ العميق. وهنا، يستهلّ الكاتب تحيّته بتمجيد المبدع، الّذي يتقن جمال صياغة حروفه ورسمها، معليًا بذلك من شأن الإبداع والإتقان في عملية الإرسال، فالكلمة لا قيمة لها إن لم تصاغ بجماليّة وإحكام.
ثمّ ينتقل ليثني على القارئ الّذي لم يكتفِ بالتلقّي السطحيّ، بل أبدع في فهم الكلمات المكتوبة وتحليلها، مسلّطا الضّوء على الدور الفاعل للقارئ في إتمام دورة التواصل وإثرائها.
تصل الخاطرة إلى ذروتها في الجملة الأخيرة، الّتي تبيّن الثمرة الحقيقيّة لهذا التناغم بين الإتقان في الكتابة والإبداع في الفهم، وهي تعانق الأرواح دون أن ترى بعضها. هذه النتيجة تؤكّد أن اللّغة، عندما تستخدم بصدق، تصبح جسرا روحيّا يتجاوز الحواجز المادّية والمسافات المكانيّة والجغرافيا، محقّقة أقصى درجات الألفة الإنسانيّة.
بالتّالي، تشكّل هذه الخاطرة، وغيرها من الخواطر في صفحات هذا الكتاب، رسالة قويّة تبرز مكانة الكلمة؛ كأداة قادرة على تحقيق اتّصال وجوديّ عميق، حيث تصبح الحروف المكتوبة والمقروءة وسيطا لخلاص الأرواح من عزلتها المعنوية والمادّية.
في خاطرة أخرى (ص87) يكتب: "الصباح الجميل في حيفا له نكهة خاصّة، لا تشبه أيّ صباح آخر، تبدأ المدينة السّاحلية يومها بهدوء ناعم، تلامسه نسمات عليلة قادمة من البحر المتوسط، تحمل معها رائحة الملح والياسمين".
هذه الخاطرة، هي وصف وجدانيّ حسيّ، تركّز على فكرة التفرّد والخصوصيّة لصباح المدينة.
يفتتح الكاتب النصّ بتأكيد قاطع على أنّ الصّباح الجميل في حيفا له نكهة خاصّة، لا تشبه أيّ صباح آخر، وهو ما يؤسّس لجوهر النصّ، معلنا عن حالة من التمايز العاطفيّ والمكانيّ، الّتي يرسمها للمدينة.
هذه النّكهة، لا تفهم بمعزل عن العناصر الطبيعيّة، الّتي تساهم في صياغتها، إذ ينتقل الوصف إلى رسم لوحة سمعيّة وحسيّة، تجسّد هذه الخصوصية للمكان؛ حيث تبدأ حيفا يومها بـ"الهدوء النّاعم"، وهو وصف يمزج الحالة النّفسية (الهدوء) بالصفة الملموسة (النّعومة)، ما يوحي بالسّكينة والرقّة التي تميّز بداية اليوم، بعيدا عن صخب المدن الكبرى.
هذا الهدوء في النصّ لا يبقى صامتا، بل تلامسه نسمات قادمة من البحر، وهو ما يضفي بعدا ملموسا من الانتعاش، ويكمل الصّورة الحسيّة بالرّائحة، فالهواء يحمل معه رائحة الملح والياسمين؛ ليخلق مزيجا عطريا فريدا، يجمع بين قوّة البحر وملحه وأصالته، وبين رقّة المدينة ونضارتها ورائحة الياسمين، مؤكّدا أنّ جمال حيفا يتكوّن من هذا التّناغم السّاحر بين عنصريّ الطبيعة، البحر واليابسة.
إنّ ما يقدّمه فؤاد أبو خضرة، يمثّل تجسيدا حيّا لجوهر الانتماء العميق، من خلال إصراره على توثيق مئة صباح، وعبر تركيزه المتعمّد على تفاصيل حيفا الحسيّة، من هدوئها إلى صخبها، ومن رائحة البحر والملح والياسمين.
يقدم دليلا قاطعا على تعلّقه بالأرض، فكلّ صورة وخاطرة، تمثّل جزءًا من روحه، لتصبح المدينة فيها مرآة لذاته، وما تلك النّكهة المتفرّدة لصباحها، الّتي لا يضاهيها صباح بالنّسبة إليه، إلّا ترجمة صادقة لهويّته الراسخة وجذوره الممتدّة، وما هذا الكتاب إلّا شهادة مصوّرة ومكتوبة على الحقّ في البقاء والوجود، عبر استدامة الجمال والذّاكرة.
بهذا الاندماج بين الفنّ والعشق للمكان، يثبت أبو خضرة فعله الإبداعيّ، مؤكّدًا أنّ حيفا بتفاصيلها اليوميّة، هي موطن الرّوح الّذي لا يمكن اقتلاعه، وأنّ أجمل ما في الكتاب هو أنّه يقدّم لنا حيفا كما يراها قلب ابنها المخلص.
لقد افتتح فؤاد أبو خضرة مسيرته الكتابيّة بهذا الإصدار، الّذي يمثّل خطوته الأولى الواعدة في عالم الكتابة. تؤكّد هذه البداية على موهبة تستحقّ المتابعة والتشجيع، وهذا الكتاب شاهد على براعته في الغوص إلى أعماق الفكرة وصياغة أفكاره بأسلوب سلس. وإذ نحتفي بهذه السّمات الواعدة الّتي تبشّر بمستقبل مشرق لقلمه، نتطلّع إليه لمواصلة هذا المشوار، متمنّين له كلّ التّوفيق والنّجاح في تقديم المزيد من الإصدارات مستقبلا.
تهانينا القلبيّة الخالصة لفؤاد أبو خضرة على إصداره، ونتشوّق لبشائر كلّ جديد يخطّه قلمه.