اهلا الصِّراع على الهويَّة في
قناع بلون السَّماء
للأديب باسم خندقجي
بقلم: مصطفى عبد الفتاح
1.9.2025
باسم خندقجي، روائي وشاعر فلسطيني وُلد عام 1978 في مدينة نابلس بالضّفة الغربيّة. يُعتبر واحدًا من أبرز الأصوات الأدبيّة الفلسطينية في العصر الحديث، حيث نجح في المزج بين الأدب والسّياسة، معبرًا عن معاناة شعبه من خلال أعماله الأدبية، سواءً الشّعرية أو الروائيّة. لقد نشأ في بيئة فلسطينيّة غنيّة بالنّضال والوعي الوطني. أكمل دراسته في نابلس، حيث كان منذ صغره مهتمًا بالكتابة والأدب. كان نشيطًا في العمل السّياسي والوطني، مما جعله مستهدفًا من قبل قوّات الإحتلال الإسرائيلي. . في عام 2004 تم اعتقاله من قِبَل سُلطات الإحتلال الإسرائيلي بتهمة الإنتماء إلى الجبهة الشّعبية لتحرير فلسطين والمشاركة في عمليّات ضد الاحتلال.حُكم عليه بالسَّجن مدى الحياة. رغم ظروف السّجن القاسية، استمرّ في الكتابة، ونجح في إنتاج العديد من الأعمال الأدبية التي تعكس معاناة الشّعب الفلسطيني.
له العديد من الأعمال الأدبية الشّعرية والنّثرية، وقد أبدع في كتاباته الروائيّة ألَّتي تعبّر عن شخصيّة أدبية صاحبة فكر ونظرة فلسفيّة عميقة، استطاع من خلال أدبه أن يصل إلى العالميّة وتسليط الضَّوء على القضيَّة الفلسطينيَّة بأسلوب فلسفي، يمزج بين العاطفة والفكر ورمزيّ يشدّ القارئ بإنسانيتّه وحبّه الشديد للوطن. استخدم الكتابة كوسيلة للمُقاومة والتَّعبير عن آماله وأحلامه بوطن حر. من أشهر مؤلَّفاته الروائية: "مسك الكفاية سيرة سيّدة الظّلال الحُرَّة "من إصدار الدَّار العربيّة للعلوم. والتي كتب عنها الأديب محمود شقير في مقدّمة الكتاب: "وقد جسَّد باسم خندقجي ذلك كلّه بسرد ممتع جميل، وبلغة فيها من الشّاعريّة ما يكفي، وباقتباسات من الشّعر والنثّر العربيين ومن سرديَّات التّاريخ، وبحوارات مُتقنة قادرة على كشف لواعج النّفوس ومكنوناتها." وروايته الثانية "خسوف بدر الدّين" اصدار دار الآداب من عام 2019 يقول في تظهيرها الرّوائي الكبير إبراهيم نصر الله:" أن يذهب شاعر وروائي فلسطيني مثل باسم خندقجي، على الرّغم من ظلمة زنزانته، لعناق النّور في روح متصوّفة، وعناق التَّسامح والحب والجمال الذي يملأ قلب بدر الدين وقلوب مريديه، فان ذلك يعني أنَّ السَّجان لن ينتصر، على الرَّغم من كلّ الوحشية. وباسم بهذا، صورة لروح بطله، وشوق هذه الروح إلى كلّ ما هو جميل وحر".
يمثّل باسم خندقجي نموذجًا للمثقّف المُقاوم الَّذي يستخدم قلمه كسلاح في وجه الظّلم. باسم أكثر من مجرّد كاتب، هو رمز للمثقّف الفلسطيني المُشتبك الَّذي لا ينحني أمام القيد، بل يحوّل المعاناة إلى إبداع أدبي خالد، يصل إلى قناعة مُطلقة بوجوب النّضال من أجل تصحيح التّاريخ وإظهار الحقيقة وهذا ما يدعوه إلى الولوج إلى عالمهم وفضح طريقة تعاملهم مع التَّاريخ فيخاطب صديقه القابع في السجن مراد " فأنا مُشتبك يا صديقي... مُشتبك يوميًا مع هذا الواقع الّذي أعمل به...: في القدس يا مراد، أنا أتجرَّع أكاذيب وأساطير ملعوبًا بأسفل سافلها.... أترعها ثمَّ ألفظها بمناعتي وحصانتي وعزمي على مواجهة الإغتصاب التّاريخي الّذي نتعرَّض له منذ نكبتنا على الأقل..." ص: 26.
رواية "قناع بلون السَّماء" هي عمل أدبي يغوص في أعماق النَّفس الإنسانية من خلال حبكة رمزية تعتمد على الأفكار الفلسفيّة والتَّأملية. كتبها خلال اعتقاله في السجون الإسرائيليّة، ممّا أضفى عليها طابعًا شخصيًا وثيق الصّلة بتجربته مع الحريّة والقيد. الرواية تتمحور حول شخصيّة بطلٍ يعاني من شعور داخلي بالإغتراب والإنفصال عن العالم الخارجيّ." عزلة استحالت مهداً لذاكرةٍ ما تفتأ تضاجعه لتلد له الماضي توائم ممسوخةً مشوَّهةً بين ماض وحاضر، بين مخيَّم ومدينة بين رام الله والقدس، بين أبيه وظلّه بين نور وأور، بين الصَّمت والبوح، بين القراءة وتسجيل البطاقات الصوتيَّة.. هنا في هذا المابين، يعيش نور الشهديّ ويترعرع ويطرد قيظه برطوبة مجدليَّة" ص 53. هكذا يرتدي البطل قناعًا رمزيًا يعبر عن محاولته التكيّف مع القيود التي فرضتها عليه الحياة، سواء كانت سياسية، اجتماعية، أو نفسية.
تنطلق الرّواية عبر سرد رحلة البطل لاستكشاف ذاته ومحاولة فهم العالم من حوله. يتنقل بين أفكار الحرية والحب والظلم في محاولة لفهم المعاني الحقيقية لهذه القيم وسط عالم مليء بالصّراعات. القناع الذي يتحدَّث عنه الكاتب لا يرمز فقط إلى القيود الظّاهرة، بل إلى تلك الخفيّة داخل الإنسان نفسه.. الرّواية تعكس تجربة الكاتب مع الأسر، مما يجعل فكرة الحرية المحور الأساسي لها ""استغل أيضا درب آلامه الاعتقالية، ليحيلها إلى درب معرفة وثقافة تؤدي به إلى الحرية، حريته الداخلية على الأقل" ص 23. وعنها يقول أيضًا عن مراد المعتقل في السِّجن والذي لم ينقطع من التَّواصل معه ولو عبر التَّسجيل الصَّوتي وكأنَّه يخاطب نفسه أو عقله الواعي، بل ويظهر كأنَّه ترك نفسه في السّجن تحت إسم مُراد ليقوم بكتابة روايته والبحث عن شخصيّاتها الضَّائعة على صفحة الوطن المسلوب مِن خلال خداع الشَّخصيات أو تقمّصها يقول: "واجه مراد حديد المُعتقل بإرادته الفولاذيّة، وهزم غُربته المريرة بالأمل المتدفِّق من حبر قلمه، ليبارز الحرمان والانتزاع الحادّ والممنهج للإنسانيّة من زمانها ومكانها." ص 23، وهكذا ويتحول القناع إلى أداة تعبير عن القيود التي يفرضها الاحتلال والسّجن، ولكنَّه أيضًا يمثّل القيود النفسيّة الوجوديّة التي يعاني منها.
ومن خلال روايته يحاول الدِّفاع عن التّاريخ والترّاث الفلسطيني، الذي يحاول الاحتلال طمسه أو تغييبه من أجل الإبقاء على روايته هو، فيقول بوضوح وشفافيّة: "لن أسمح لهم أن يتطاولوا على المجدليَّة بترّهاتهم، ويسرقوا سيرتها مني" ص: 11. وقد تكون سيرة مريم المجدليّة المغمور تاريخيًا بتفاصيله الدقيقة واسراره الغامضة، رمز لطمس معالم التّاريخ الفلسطيني وتذويبه أو حرفه عن مساره ليصبح تاريخ مزيف وغير حقيقي بفعل الحركة الصهيونيّة وأدواتها الباحثة عن طمس وإلغاء وجود الشّعب الفلسطيني.
ويرى في الرّواية فرصة لكتابة تاريخه وروايته بالأسلوب والطّريقة الصَّادقة والأمينة مع الخيال التاريخي للأحداث يقول بوضوح:" سأرد على الخيال بمثله وأكثر، فما التّاريخ في النّهاية سوى تخيّل مُعقلَن" ص 12. ويسهب الخندقجي في الكتابة والبحث عن تاريخ المجدليّة المغمور، وكأنّه يقارنه بالتّاريخ الفلسطيني الذي يحاول الاحتلال طمسه وتغييبه وسرقته فيقول بوضوح: "لماذا ينتزع كاتب أجنبي المجدليّة من سياقها التّاريخي الجغرافي الفلسطيني ليلقي بها في مهاوي الغرب؟ لماذا؟! ص" 24 ليوضح بصورة جليّة اهتمامه الكبير بالمجدليّة بتعريفها المتناقض بشخصيّتها شخصيّة الفلسطيني والصّهيوني على تراب الوطن فيقول" وبالتّالي، فانَّ المجدلية هي الحضور المتناقض في الحياة، الحضور الثنائي للخير والشر.. للتوبة والخطيئة، للملاك والشيطان." ص 55. ويوضح فكرته عن سرقة التاريخ بوضوح أكثر حين يشرح لصديقه او لنفسه الفكرة" إنَّ الكولنيالية تفاصيل صغيرة، إنَّها هَوس السَّيطرة والتَّفاصيل الصَّغيرة ألَّتي تشيّد بالنّهاية بنية شاملة متكاملة.. تفاصيل معرفيّة وتاريخيّة وثقافيّة ونفسيّة.... لهذا يجب أن نحاربها بالتَّفاصيل ذاتها. ص: 25
البحث عن الهوية وصراعاتها:
يناقش الكاتب قضايا وجوديّة تتعلَّق بالهويّة والهدف من الحياة، مما يجعل الرّواية أقرب إلى رحلة فلسفية، ومن خلالها يطرح قضيّة تشتت الهوية داخل الأرض المحتلة وخارجها، والصّراع الدائم بين الهويّة الفلسطينيّة هويّة نور المستهدفة، والضَّائعة كضياع الوطن، والضعيفة بسبب الصّراع الوجودي المرير عليها، مقابل الهويَّة الإسرائيلية أو هوية أور القويّة المتمكّنة النّافذة كقوّة الدّولة المهيّمنة وعناصرها، وقد اتخذ من البحث التّاريخي والتّنقيب عن الآثار وسيلة مقاومة وخط دفاع شديد القوة، وجادّ ضد المحتل، وفضح اجراءاته التعسفيّة لطمس الهوية الوطنية للفلسطيني، من خلال طمس معالم التّاريخ وإخفائه.
وبالرّجوع إلى مقوّمات الهويّة أية هوية لأيّ شعب نجد أن لها ثلاثة أعمدة ترتكز إليها، تحميها وتحافظ عليها كبؤبؤ العين، وأي خلل في إحداها يعني أنَّ هناك خلل في مُقومات وركائز الشّعب نفسه، هذه الاعمدة هي: ارض تأوي وتحمي الشعب، بدونها لا مكان لوجوده، لغة عصرية، تعمل كوعاء يحفظ الحضارة والتراث وكمميز حضاري ثقافي وفكري لأبناء الشعب، وتاريخ وتراث حضاري مميز للشعب وعابر للزمان، يؤكد المشترك التّاريخي والتراثي لأبنائه ويثبّت المصير المشترك على مر الزّمان لأفراد المجموع.
لقد وَعت الحركة الصهيونيّة ومُنذ تأسيسها إلى الاقانيم الثَّلاثة وعملت بكلّ طاقاتها من أجل تثبيت هذه الأعمدة المكوّنة لهويتها، فلطشت الأرض وجيَّرت الدّين اليهودي للفكر الصّهيوني وقومجيته، أي قامت بتحويل الدّين إلى قوميّة وبذلك ثبّتت ركيزته كشعب له هوية، وقامت بإجبار التّاريخ والتراث لملائمة الارض والمكان، وبما انَّ اللغة هي وعاء التُراث والتّاريخ فهي، مركّب أساسي للهويّة، فقد قامت بشكل ممنهج، بإحياء اللغة العبرية، وبها تمّ تغيير المعالم اللّغوية والتّاريخية للمكان، وبعدها قامت بخلق الأساطير والحكايات، حول المكان بما يوحي بانتمائه إليهم. وفي حوار متلعثم بين اور ونور يسأل نور اور:
"هل تعلم يا اور ما الَّذي تخبّئه هذه الغابة في ظلالها؟
كلا لا أعلم.. واصمت الآن لكي لا تفضح أمرنا قبل بداية اللُّعبة.
اللعبة بدأت منذ سبعين عامًا... حين زرع أجدادك هذا الجبل بالجثث والأشجار لإخفاء بقايا معالم قرية أبو شوشة الَّتي هَجَّرتم أهلها وقتلتموهم إبّان نكبة 1948.
كلا ... انت مجرَّد حاقد ومُفترس للحقائق التّاريخية. فأجدادي زرعوا هذه الغابة من أجل الإستجمام والتَّنزه والتخييم لا أقل ولا أكثر. دعك من رائحة الموت والخراب، وإلَّا سأنكبك مرَّة أخرى الآن بفضيحة مجلجلة. " ص: 147.
بهذه المعركة وهذا الصّراع المرير على الهويّة يحاول خندقجي أن يوضّح الصّورة، ويستكشف معالم الهويّة الفلسطينية الحقيقيّة المسلوبة مُقابل فضح الهويّة الصهيونيّة المزيّفة والّتي استطاع بقدرة هائلة وبذكاء يُحسد عليه تقمّص الشّخصيتين في وعاء واحد أو شخص واحد، كانه مومولوج واحد يخاطب به ذاته، وبقدره ومهنيّة استطاع أن يقدّم صورة إنسانيّة ناصعة للقارئ حول هويته الضّائعة أو المسلوبة التي يحاول الصّهيوني تقمصها أو اقتناصها أو إعدامها كل يوم .
وفي تفكير معمَّق، ورؤية واضحة في عمله الروائي، يحاول خندقجي إبتكار شخصيّة تستطيع الولوج إلى عالمهم وكان تفكيره في البداية اختيار فلسطيني يحمل الهوية الزّرقاء، "سيكون الروائي أيضا فلسطينياً من حيفا أو يافا أو الناصرة، أي من الفلسطينيين الّذين صمدوا في أرضهم خلال النكبة" ص: 13، ولكنَّه غيّر مسار روايته المعطف الجميل الذي اشتراه صدفة ليجد في أحد جيوبه بطاقة هوية إسرائيلية،قناع بلون السماء، ليحوّلها إلى قناعه أمام الإسرائيلي في مسار رحلته من أجل إظهار صورة التّاريخ الحقيقي لفلسطين من داخلهم، وبدون تزييف له كما يفعلون.
الشخصيات عند باسم خندقجي ليست مجرد أفراد بل تمثل أفكارًا أو حالات إنسانية. غالبًا ما تكون الشخصيّات رمزية، مما يجعل القارئ يتفاعل معها على مستوى فكري أكثر من المستوى العاطفي. وفي القسم الثالث والأخير من الرواية يخصّصه بالكامل لتوضيح صورة الهوية الفلسطينية الحقيقية، الواضحة الطبيعية من خلال الشّخصية الطارئة على عالمه السّري "سماء إسماعيل" الطالبة أو الباحثة في علم الآثار والمشارِكة معه في التّنقيب. فأطلق على القسم الثالث سماء.
سيميائية الاسم "سماء إسماعيل" تشير إلى الدلالات العميقة والمعبرة واختيار الاسم بعناية فائقة وتفكير مسبق فالسَّماء تعبير عن الكل الجامع للوطن، وتعبير عن الصَّفاء والوضوح، ولا استبعد أن يكون باسم قد فكر في اختيارها الشّخصية المركزية في الرّواية بدل اور، وقد عدل عن ذلك من أجل توضيح الخلط المتعمد من قبل الصهيونية بين الهويتين، من أجل ابتلاع الهويّة الفلسطينيّة، وهكذا أثبت ذكاء ومهارة وحبكة روائية شديدة التّعقيد ولكنَّها واضحة وجميلة وتقدم صورة مشرقة للهوية الفلسطينية المسلوبة. اما إسماعيل، الاسم الثّاني لسماء فهو الجذر الأوّل للعربي، أخو إسحاق أب اليهود، أبناء إبراهيم الخليل وبذلك يعود بنا إلى جذور التّاريخ والأصول التي نبتت فيها سماء الفلسطينية الاصيلة، الجذر الباقي في الوطن، لتكتمل دائرة الهوية الفلسطينية الغير قابلة للتّمزيق أو الإلغاء او الذّوبان، ولذلك لم يستطع الصّمود أمامها وهو يرتدي قناع اور ليعترف لها بشخصيته الحقيقيّة.
وفي اللقاء الأول بينهما لقاء التّعارف بين أعضاء المجموعة، تصدم نور بتعريفها لنفسها بالقول الواضح، أنَّها عربية فلسطينيّة تسكن في حيفا من هذه البلاد، فتثير حفيظة ايالا صديقة اور وملازمته بأفكارها العنصرية البغيضة اتجاه العرب، كما تجلَّى بتصرّفها مع سماء من اللحظة الأولى وحتى النهاية.
كما في كل مأزق، يلجأ نور إلى صديقه مراد ليخاطبه بلواعج قلبه وروحه يقول له" مراد... لقد أُصِبت هذا المساء بصدمة قاسية، إنَّني لا أهمس الآن فحسب، بل أنوح بعد أن قبضت عليَّ تلك الفتاة متلبسًا بقناعي... قبضت عليَّ بسطوع وجهها الأصيل. وأنا أنا اللاجئ التّعيس، جلست بجانبها كاسيًا عُريَ وَجهي بوجهٍ آخر نكبني.... فما الَّذي يتوجَّب عليَّ فعله؟ قل لي يا صديقي هكذا عرَّفت على نفسها وإسمها ... سماء إسماعيل من حيفا من هذه البلاد. لم تقل إنَّها مِن إسرائيل أو عربيّة إسرائيلية لأنَّها تحمل بطاقة هويّة إسرائيلية" ص: - 165 - 164. وهكذا تتحول سماء إسماعيل بوضوح الرؤية عندها وبسطوع هويتها أمام أعدائها إلى أيقونة ومثال يحتذى عند نور المتخفي خلف قناع اور، ويزداد تخبطًا عندما يقرّر أن يخلع قناع اور أمام سماء، لتتهمه بالعمالة أو التطبيع أو الجنون وترد على تصرّفه الغريب " أيّها المغفَّل، أنا انتظر عمرًا بأكمله من أجل الخلاص من هذه الهويّة، وأما أنت، فقد خسرت عمرك كله لترتدي هذا القناع، هذه الهويّة الّتي نكبتني" ص 224. ويقف نور أمام الحقيقة عاريًا، ليكشف أسرار هويته الحقيقيّة وليكتشف ذاته كما هي، يقول: " لاكتشف الآن أكثر من أيّ وقت مضى أنَّ سماء إسماعيل هي مريم المجدليَّة النّورانيّة، وأما أنا .. فأنا لست يسوع المخلِّص. قد أكون يهوذا الاسخريوطي" ص 226. وفي إعتراف آخر لصديقه أو لنقل لضميره ووجدانه الدّاخلي القابع خلف القضبان مراد، يشرح عمق المعاناة التي يعيشها الفلسطيني المعذّب في المخيمات وخلف القضبان فيقول" بل أنا هو المسخ الّذي وُلد من رحم النَّكبة، والأزقة والحيرة والغربة والصّمت: صمت أبي وموت أمي، ومطاردتي في أزقة المخيم بلقب السّكناجي... ولدت من رحم التَّهميش والتَّصنيف وسجنك أنت يا مراد.. ولدت من مرآة اور شابيرا. " ص: 229. ويصل الكاتب إلى نهاية المشهد عندما تندلع الانتفاضة بالأقصى ويلغى برنامج الحفريات الارخيولوجية، يقفز نور فرحًا، بقراره التَّخلّص من قناعه المزيّف وارتداء قناعه الحقيقي وشخصيته الفلسطينية الحقيقيّة.
ويصل القارئ الى ذروة المفاجئة الّتي يختم بها روايته الرائعة، مرة أخرى انها الهوية المتمثلة بسماء إسماعيل، بكلّ ما تحمل من معاني، ومن رؤيا وثبات على أرض الواقع، تلحق به بسيارتها إلى المحطة لتقول له" اصعد أيها المجنون. لقد صدَّقتك. صدّقتك بالأمس فقط.. ولن أتركك وحدك في هذا الطريق، فالبلد كلها اشتعلت هيا... اصعد يا نور، ماذا تنتظر؟ " ص: 237، هكذا تنتهي الصورة التي رسمها الكاتب بالقرار النهائي، بطرد كل الهويات الغريبة وتمزيقها وإبقاء هوية واحدة فقط هوية سماء إسماعيل هوية الفلسطيني المتجذر في الوطن، ليقول لها الجملة الأخير التي طال انتظارها في الرواية والتي فاجئت القارئ بعمقها، بأبعادها وقوة تعبيرها " انت هويتي ومآلي" ص 338.
تحية للأديب باسم خندقجي، هذا الروائي الجميل المناضل العنيد ضد الاحتلال وموبقاته، القابع خلف القضبان بثلاثة مؤبدات، يطل علينا بكل جلال واحترام ليصحّح مسار التّاريخ، ويقييّم الواقع الفلسطيني بكلّ ملابساته وإشكالاته وأبعاده، ومن خلال إبراز الهويّة الحقيقيّة للفلسطيني أينما حلّ، ودوره في الصّراع، يرسم لنا صورة الفلسطيني وحياته اليومية ومعاناته أمام جبروت وسطوة أقسى إحتلال وأشرس هجمة عرفها العالم، بمهنية وحرفية عالية، حتى استحق جائزة البوكر الدولية نيابة عن فلسطين والعالم العربي بكلّ جدارة.
نشر في مجلة "شذى الكرمل" العدد 3 السنة 11