اهلا- المثقف الفلسطيني مقدسيون بالذاكرة/ جانيت صليب
هي تلك المرأة المقدسية الأصيلة التي حملت رسالة وآمنت بها، رسالة تضاهي المدفع والبندقية والحجر، رسالة صقل وبناء الانسان والمجتمع والوطن، رسالة التربية والتعليم بكل ما تحمله في طياتها من معاني. هي التي اعطت كل ما لديها بلا حدود، دون كلل أو ملل ليتتلمذ على يديها مئات الطلاب لأكثر من ثلاثين عام.
من مواليد القدس عام 1936هي جانيت صليب مرقص، مربية الصف الثالث الابتدائي لأكثر من ثلاثة عقود وأول معلمة في تاريخ وأروقة مدرسة الفرير باب الجديد.
كانت مس جانيت تجمع بين تناقضات عدّة، جمعت الصّلابة والرّقّة، القوة والشّفافيّة، القسوة واللين. اذا عرفتها وجدتها تشبه الملكة إليزابيث في انضباطها وطلتها... ملامحها ومظهرها وتسريحة شعرها لا تتغير.
أحد طلابها: عبد الرحمن الكالوتي يستذكر مس جانيت التي أحب:
هي تلك المعلمة الفاضلة، الإنسانة التي توقد داخلنا ألف شعلة وشعلة، فقد روت بسنين عمرها علمنا وتربيتنا وأخلاقنا وشخصياتنا، كانت عيناً متدفقة لا تنضب. كلما أعطت زاد مخزونها ومكنونها، تفهم الطالب من نظرة عين واحدة، لتحلل شخصيته وتدرك بفراستها نقاط قوته وضعفه فتحنوعليه بما يحتاج حتى يزهر ويثمر.
كانت ترافقنا طوال اليوم لتغرس فينا أصول العربية والإنجليزية والعلوم والحساب. لا نملّها ولا تملّنا، ولكن كيف لا ينضب مخزونها من الصبر والعطاء؟ أكثر من ثلاثين عاماً في نفس المكان ونفس الوجوه والمحتوى العلمي، لم يتغير عليها سوى وجوه الأطفال، إنها يا سادة الأمومة المتوقدة في روحها، حرمها القدر من الإنجاب فكانت له بالمرصاد، سبرت غور عطش روحها للأمومة وأثبتت أن الام مدرسة وتربية وتعليم لا إنجاب فحسب.
فكانت أُما للمئات، كانت بركانا متدفقا من الأمومة والحنان والعطف. كانت أُما لطلابها وأبناء وبنات إخوانها وأخواتها ونعم الأم كانت لحبيبها وزوجها مرقص...
أذكر علاقتها بالأستاذ مرقص صوراً لا تغادر مخيلة طفولتي، صورا أدركت مع مرور الزمن معانيها. كان حباً مبنياً على الاحترام والاحتواء والتفاهم، كانا لا يفترقان أبدا... يجيئان للمدرسة سوياً في سيارتها الفولز الزرقاء... كانت هي من يقود لكبر سن الاستاذ مرقص حينها أو لتريحه ويريحها أو لتتكامل صورة المرأة المستقلة المسؤولة... لست أدري...في فترة الاستراحة كانت تتوجه إلى مكتبه الصغير فيتحادثان حديث ملكة لأميرها، وتمضي سنين العمر وهما سويا رمزاً للإخلاص والمحبة ونبل الزواج. كانت سنداً له وكان سنداً لها.
لا أستطيع أن أنسى تلك الضحكة الخجولة والعيون البرّاقة عندما التقيتها قبل عامان من وفاتها فتجاذبنا أطراف الحديث لأشعر بأنني الطفل والتلميذ إبن التاسعة، فهي من تلك الشخصيات التي تستطيع أن تعيدك لسنوات الطفولة بمجرد النظر إلى عينيها. كان حينها الأستاذ مرقص قد توفى، وبمجرد ذكره وعندما أفصحت لها عن تقديري لحبه الكبير لها ضحكت، فعادت جانيت الصبية، ضحكت فملأت قلبي سعادة، سعادة ابن أدخل السرور لقلب أمه. أبعد هذا نقول ليس لجانيت تلد أو ولد؟ لا وألف لا فهي أم للمئات بلا منافس...
جانيت ولدت بتاريخ 21/3/1936 في يوم عيد الأُم هذا اللقب الذي شاءت الاقدار ان تُحرم منه من فم طفل لتكون أُمّا لمئات غيره يعايدوها بيوم اللأُم ويوم ميلادها.
جانيت صلبة وقوية... متعلمة ومؤمنة... لكنها في نهاية المطاف إنسان، إنسان تملّكه المرض اللعين، فصارعت الألم بالأمل والموت بالحياة واليأس بالإيمان. في هذا الجسد الذي أنهكه الوجع، صراع حرب خسرت فيها جانيت الجسد، أما الروح فقد غادرت بتاريخ 17/8/2018 لتلتقي بالأحبة لكنها ستظل في عبق مدرسة الفرير وسور القدس وفي قلبي وقلب كل طالب عرف مس جانيت صليب …لروحها سلام القدس وأهلها.