اهلا-زياد عيتاني-بيروت 16 عاماً على غيابه عنها… فلسطين تحن الى محمود درويش
مثلما كان يحن إلى خبز أمه، ها هي فلسطين اليوم تحن الى محمود درويش، الذي حمل قضيتها ومعاناة أهلها في فكره ووجدانه وجوارحه، لتنفجر كلمات وشعراً، كان لها أثر أبلغ من الرصاص. عاش تجارب التهجير والغربة والاضطهاد والاعتقال والمنفى والسجن، فزادت من حنينه وانتمائه الى وطنه المسلوب، ومن حماسته الثورية، منشداً القصائد والنصوص النثرية في وجه المحتل الغاصب لأرضه، مُستخدماً مفردات لها خصوصية أسماء مدن فلسطين ومنحدراتها وطيورها وفاكهتها وقهوتها ومقاهيها، “هذا البحر لي”، “في القدس قتلوني” و”نسيت أن أموت”. كان القلم بندقيته، يكتب عن الوطن، الأرض، الثورة، الأم، البحر، البرتقال، العصافير، المرأة، والحب.. كلها عناوين كان يجدها تعبّر عن فلسطين، عشيقته وقضيته وحلمه.
ولد محمود درويش في 13 آذار عام 1941، في قرية اسمها البروة تقع على بعد 9 كيلومترات من مدينة عكا. تعرّض في عمر الـ6 سنوات للتهجير القسري مع أسرته إلى لبنان، تاركاً شوارع قريته وحقولها. وعادت الأسرة بعد عام، لتجد البيت والقرية مُدمّرين بالكامل، بفعل نكبة الـ 48، وهكذا تغير اسمه من طفل إلى لاجئ في بلاده، بعد مصادرة أملاك الأسرة، وقطع مصدر رزقها، وتعرّف على معنى كلمة احتلال مبكراً.
كان درويش متفوقاً في دراسته، وكانت بوادر اهتمامه بالأدب العربي واضحة في طفولته، اذ يكثر من المطالعة، ويحاول كتابة الشعر من خلال سرد عواطف الطفولة، ومشاعرها، إضافة إلى محاولاته الكتابة عن أمور أكبر من طاقته كطفل. كما اعتنى بالرسم كموهبة امتلكها في ذلك الحين، إلا أنه توقف عن ممارستها لما تحمله من نفقات مادية لا يستطيعها والده، وهو الأمر الذي أحزنه للغاية. واستمر درويش في تعليمه حتى أكمل الثانوية العامة، لكنه لم يستطع إكمال مسيرته الجامعية، فكتب في الصحف والمجلات، وعمل في صحف “الحزب الشيوعي”، إضافة إلى عمله في مجلة “الفجر” الأدبية. في العام 1970 سافر إلى موسكو لإكمال تعليمه الجامعي، ثم انتقل في العام 1971 إلى القاهرة حيث مكث فيها سنوات قليلة، وبعد ذلك سافر إلى دول أوربية وعربية عدة، وحصل على مناصب رفيعة في الجانب الاعلامي والسياسي لكونه أحد أهم شعراء فلسطين، الى أن استقر في بيروت في العام 1973 ليعمل رئيس تحرير لمجلة “شؤون فلسطينية”.
وفي بيروت تفرّغ للشعر، وأصدر في العام 1986 كتابه “ذاكرة للنسيان”، الذي دوّن فيه ببلاغة فائقة تجربته خلال الحصار الاسرائيلي لبيروت. في العام 1988 انتخب درويش عضواً في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية ثم مستشاراً للرئيس الراحل ياسر عرفات، لكنه استقال من اللجنة في العام 1993 احتجاجاً على توقيع المنظمة اتفاقية أوسلو. وفي منتصف التسعينيات عاد إلى فلسطين واستقر في رام الله ليكتب بعد ذلك العديد من أعماله الشعرية أشهرها “حالة حصار” عام 1982 و”في حضرة الغياب” عام 2006، قبل أن يختتم نتاجه الشعري بديوان “أثر الفراشة” عام 2008.
في 9 آب من ذلك العام توفي محمود درويش بعد عملية قلب مفتوح في الولايات المتحدة الأميركية، ورحل تاركاً تراثاً شعرياً حياً، ترجم الى عدة لغات. كتب أكثر من 30 ديواناً ونشر العديد من المقالات التي تتناول قضايا الوطن والغربة والهوية، واستخدم اللغة بأسلوب مبتكر يجمع بين البساطة والعمق، ما جعل شعره مفهوماً وقويا في آن واحد.
اليوم وفي ذكرى غياب محمود درويش، وفيما تعيش غزة حرب ابادة جماعية وتدمير شامل، بهدف سلخ فلسطين عن الخريطة وإجهاض قضيتها المحقة، كم تحن أرض فلسطين وأهلها الى كلمات محمود درويش لتحفز التمسك باستعادتها وتحريرها وإنشاء دولة فلسطين العربية، التي لطالما حلم بها وصدعت كلماته وقصائده لأجلها.