اهلا- شربل زوين في مثل هذا اليوم 22 نيسان/أبريل من سنة 1950، فُتح قبر خادم الله الأب شربل - بقاعكفرا بأمر من البطريرك مار أنطون بطرس عريضة، ووُجد الجثمان غير فاسد يَنضَح ويطوف على مادة لزجة من الدم والماء..
وهكذا في الذكرى ال 73 لفتح ضريح مار شربل، ظاهرة القديس الحبيس بداية لا تَعرف النهاية..
فبعد أن كان قد أُقفِلَ قبر القدِّيس شربل، وخُتم بالشّمع الأحمر سنة 1927، من قِبَل لجنة التحقيق المكلّفة من قبل البطريرك الماروني الياس الحويّك، فُتِحَ مجددًا في 22 نيسان سنة 1950، فإنفتحت أبواب السماء، وفاضت نِعَمُ الله الروحيَّة مُجسِّدةً عجائب الله الغزيرة في قديسيه..
في ذاك اليوم تهافتت الجموع إلى دير عنّايا، وإلى المحبسة -الصومعة، وإلى الضريح، وإلى كل ناحية من نواحي ذلك الدير. ففي كل مكانٍ، وموضعٍ من محيط الدير وباحاته، جماهيرُ سكبت الدموع، ورفعت الصلوات، وجماهيرُ من كلّ دينٍ، وجنسٍ، وعرقٍ ولون، ومن كلّ لغةٍ، وصقعٍ، حملوا العرج، والعميان والمرضى، والسقماء، وحاولوا الوصول إلى ضريح الأب شربل لنيل البركة، وإلتماس الشفاء..
في هذا المكان بالذات، تَجلَّت رغبة الإله الحقّ الذي أفاض الخيرات الروحيَّة والزمنيَّة على العالم بضريح الأب شربل، فتحقّقت في هذا الحبيس كلمة يسوع المسيح "إن أحبني أحد يحفظ كلمتي وأبي يحبّه وإليه نأتي وعنده نجعل مَقامنا" (يو 14/23).
أحبّ الأب شربل يسوع حبًّا جمًّا من كلّ قلبه وفكره، وعقله وقوّته، حتى الإستغراق في جماله الإلهي.
22 نيسان 1950، ذاك اليوم، كان فاتحة العجائب. إنّهُ زمن الله على أرضنا، بعجائبِ صفيِّه القدِّيس شربل..
جدير ذكره أن قداسة البابا بيّوس الحادي عشر (1922-1939)، قد إستقبل يوم الإثنين 4 أيّار/مايو 1925، قدس الأب العام إغناطيوس داغر التَّنُّوريّ († 1957)، الرَّئيس العامّ للرَّهبانيَّة اللُّبنانيَّة المارونيَّة، برفقة الأب مرتينوس طربيه، وكيل عام الرَّهبانيَّة، وإلتمس الأب العامّ من قداسته أثناء المقابلة فتح دعوى عَبِيد الله الأب نعمة الله الحرديني، والأب شربل بقاعكفرا الحبيس، والأخت رفقا الحملاويَّة. وفي إنتهاء المقابلة، طلب قداسته من الأب العام تقديم عريضة إلى غبطة البطريرك المارونيّ مار الياس بطرس الحويِّك، بصفته الرئيس الكنسيّ المكانيّ، يلتمس منه التلطُّف ببدء مسار الدَّعوى لتطويب عبيد الله أبناء الرَّهبانيَّة اللُّبنانيَّة المارونيَّة المذكورين وتقديسهم.
بعد رفع العريضة من قبل الأب العامّ إلى البطريرك بتاريخ 23 كانون الأوَّل/ديسمبر 1925، تمعّن غبطته بقراءتها، وعيَّن يوم الخميس 28 كانون الثَّاني/يناير 1926 لجنة التحقيق الإخباريّ بدعوى قداسة عَبْدَي الله الأب نعمة الله الحرديني، والأب شربل بقاعكفرا الحبيس، وأمة الله الأخت رفقا الحملاويّة. وبناءً على مرسومَي البطريرك الحويِّك في 24 تشرين الثَّاني/نوفمبر سنة 1926، و15 حزيران/يونيو سنة 1927، قرَّرت اللَّجنة المكلّفة من قبله نقل جثمان عبد الله الأب شربل بقاعكفرا الحبيس، إلى تابوت جديد يوم الأحد في 24 تمّوز/يوليو سنة 1927.
نُقل الجثمان بعد الفحص الطِّبِّيّ عليه من قبل طبيبَين، الفرنسي جوفروا والأرمني اللُّبنانيّ بلتزار ملكونيان، وكلاهما أستاذان في المكتب الطِّبِّيّ الفرنسيّ في بيروت. بعد ذلك أُلبس الأب شربل ثيابه الرُّهبانيَّة والكهنوتيَّة، ووُضِع معه في التابوت تقريرٌ طبيٌّ داخل بوق من زنك كُتب باللّغتَين الفرنسيَّة والعربيَّة، وأودِعَ تحت يده اليُسرى. بعد ذلك أخذ الحضور البركة من جثمان الحبيس، وأُقيم له جنّازٌ حافلٌ شارك فيه قدس الأب العام إغناطيوس داغر التَّنُّوريّ والسُّلطة العامَّة في الرَّهبانيَّة اللُّبنانيَّة المارونيَّة، وجمهور من الرُّهبان، واللَّجنة المكلَّفة من قبل البطريرك، إضافةً إلى عدد لا يحصى من الرِّجال والنِّساء والأطفال..
وسُمح للنِّساء بالدخول إستثنائيًّا إلى كنيسة دير مار مارون- عنّايا لإلقاء نظرة على الحبيس ونيل بركته (الكنيسة ضمن الحصن الدَّيريّ فلا يدخلها النِّساء عادةً). وبعد إغلاق التابوت لُفَّ بشريط أبيض وخُتِمَ بالشَّمع الأحمر، ومن ثمَّ وُضع في الطَّبَقَةِ السُّفليَّة من الجهة الشَّرقيَّة عند بوَّابة الدَّير عن يسار الدَّاخل مباشرة، وأوصد المكان بالحجر، حيث وضعت بلاطة رخاميَّة تشير إلى قبر الأب شربل الحبيس.
يقول الأب بطرس أبي يونس الإهمجيّ، عن الفترة الممتدّة من 24 تمّوز/يوليو 1927 إلى 22 نيسان/أبريل سنة 1950، ما يلي: “كانت فترة هادئة، كاد النَّاس يَنسون الرّاهب البارّ الراقد وراء جدران الدّير”. ويتابع الأب بطرس (في مجلّة طريق القداسة الأعداد 1-9 من سنة 1959، الَّتي عُرِفت لاحقًا باسم مجلة شربل) قائلًا إنّه كان يشاهد “مادّة لزجة” تَنبع من الأرض عند جدار القبر الغربيّ (الذي كان يُدعى معبد الصّليب)، فأراد فتح القبر ليرى مصدر هذه المادة. وتخوّفًا من أن تكون المياه تسربت إلى القبر فالجثمان وأفسدته، نزل إلى القبر في ليل 24/25 من شهر شباط/فبراير سنة 1950، برفقة راهب من رهبان الدّير، والسّيّدين أنطون شربل وعمانوئيل فارس سعد، وأعطى أمرًا برفع الأحجار وفتح القبر، رغم علمه ومن معه بالحرم الكنسيّ على من يتجاسر ويَفتح القبر من دون إذن البطريرك وموافقته.
إرتجف الأب الرّئيس ومن معه أمام التابوت حين شاهدوا القبر ناشفًا وقسمًا من التابوت مهترئًا، عائمًا بالعرق الدمويّ، يَتقطَّر منه ويتصبّب على الحضيض، ثم يجري حتّى الجدار الغربي داخل المعبد..منظرٌ مذهلٌ، كأنَّ الأب شربل في اليوم الأوَّل لدفنه في جثمانه السَّليم ! وبعد أن صلَّوْا مسح الأب الرَّئيس وجه الحبيس ويدَيْه بمنصفة (قطعة بيضاء من اللباس الكهنوتي) فإنطبع رسم الوجه واليدين عليها.. وبعد ذلك أعاد زائرو القبر كلّ شيء إلى ما كان عليه، وعادوا في دجى اللَّيل من حيث أتوا، ولم يغمض لهم جفن في تلك الليلة..
في اليوم التالي، أعطى الأب بطرس الإهمجيّ عِلمًا لقدس الأب العام يوحنَّا العنداري بفتحه قبر عبد الله الأب شربل، الذي بدوره أبلغ البطريرك أنطون بطرس عريضه بالحدث. وعَلَت الصّيحة في الأوساط الكنسيَّة بأنَّ “حارس القبر” رئيس دير مار مارون- عنّايا فتح القبر من دون أيّ تفويض من البطريرك، وأُنزل بحقّه الحرم الكنسيّ، غير أنّه رُفع عنه بعد مدّة وجيزة..أمام واقع الحال أصدر البطريرك أنطون بطرس عريضة مرسومًا بتاريخ 10 آذار/مارس سنة 1950، يقضي بفتح القبر رسميًّا مكلِّفًا لجنة من قبله لتقوم بهذه المهمة الكنسيَّة. وتعيّن يوم 22 نيسان/أبريل 1950، موعدًا لذاك الحدث الكبير الجلل.
أتى الناس في ذاك اليوم من كلّ حدب وصوب، وكأنّ الأرض تُنْبِتُ بشرًا، وإكتظّ الدّير وما حوله بالنّاس، جماهير مندفعة إندفاع السَّيل..مشهدٌ فريدٌ رائع لم تشهده عنّايا من قبل، أمواجٌ بشريَّة كأنّها تتَّجه إلى شاطئ الأمان والسلام والراحة..جاء في المحضر الذي نُظِّم لفتح القبر في 22 نيسان/أبريل من تلك السَّنة ما يلي: “فُتحت السَّماء وفاضت نِعَمُ الله الروحيَّة والجسديَّة على لبنان والعالم”. جاءت السَّماء تُطهِّر وجه الأرض بشفاعة حبيس عنّايا، وتَدْفُق عليها وافر العطايا الإلهيَّة، فبقدر ما صمت الحبيس في حياته تكلَّم بعد مماته، وعزلته على قمَّة عنّايا لم تكن إنعزالًا وأنانيَّة، إنَّما ٱنفتاحًا على الله ومنه على الإنسان كلّ إنسان وكلّ الإنسان..
أما بعد 22 نيسان/أبريل، أضحى الدَّير كأنَّه مستشفى يَقصده المرضى، والسُّقماء والعرج والعميان، والمصابون بالعاهات والأوجاع.. كلّهم يطلبون شفاعة عبد الله الأب شربل..وصراخٌ كان يعلو من كلّ صوب “عجيبة عجيبة"..وقرع أجراس وزيّاح للقربان الأقدس وطلبة العذراء وزّياح “يا أمّ الله”.. أصبح ضريح الأب شربل “قبر العجائب” ومصدرًا للنِّعَم، وقد سُجّل في سجلّات الدّير آنذاك حوالى ألف أعجوبة خارقة الطبيعة، لكنّ الكنيسة بسلطانها أثبتت منها رسميًّا أعجوبَتَيْ الأخت ماري آبيل القمري فرحات، من راهبات القلبين الأقدسين(اليسوعيّة)، التي حصلت على نعمة الشِّفاء من شلل سريري وإنحلال جسدي في 12 تمّوز/يوليو سنة 1950، وشفاء إسكندر نعوم توما عبيد من بعبدات الذي حصل على نعمة شِّفاء البصر في 21 تشرين الأوّل/أكتوبر 1950، وهاتان الأعجوبتان أقرَّتهما الكنيسة بشكل رسميّ وكانتا الدّافع إلى تطويب مار شربل في 5 كانون الأوَّل/ديسمبر سنة 1965، في ختام المجمع الفاتيكانيّ الثّاني.
وصف الأب العام موسى عازار († 1963) تلك الظّاهرة بقوله: “تكاثر حدوث الخوارق حول قبر رجل الله هذا تكاثرًا عجيبًا، وتكاثر تردُّد الزوّار وأصحاب الأمراض والعاهات المختلفة إلى هذا القبر طلبًا للشِّفاء في اللَّيل والنَّهار، ووَفَد الزوَّار إلى القبر من جميع الطوائف اللبنانيَّة، ثمَّ من جميع البلدان الشّرقيَّة والغربيَّة”. أضحت الأحاديث كلّها عن عبد الله الأب شربل كأنّها الريح تلفّ العالم..عنّايا محطّ أنظار العالم، هذه البقعة من الأرض النَّائية البعيدة أصبحت مصدرًا للطّاقة الرّوحيَّة..
تَفجّر ينبوع الأب شربل وتَدفق مياه نِعَم وبركة وتوبة، وكانت معجزة شربل الكبرى تُقدُّم الكثيرين إلى سرّ التوبة والرُّجوع إلى الله بالنّدامة والإعتراف..وكان يُحتفل بالقداديس على مدار السّاعات، إن في كنيسة الدّير أو عند معبد الصّليب حيث الجثمان، أو في باحة الدير الدّاخليَّة، كما أُقيم مذبحٌ عند سطح الدّير والمؤمنون في باحته الخارجيَّة، وبلغ عدد المناولات أربعة آلاف في اليوم الواحد..عودة إلى الله كان رائدها حبيس عنّايا الرّاهب العابد النّاسك، الذي قضى حياته متخلِّيًّا عن كلّ شيء في حياة من صوم وزهد وصلاة، من أجل شعبه والعالم، فبحقٍّ يُدعى مار شربل “بطلُ القداسة”، وفق تعبير قداسة البابا فرنسيس (2005-…)
كتبت الصُّحف المحلِّيَّة والعالميَّة عن حدث عنّايا وَوُصِفَ عبد الله الأب شربل بالطَّبيب العالميّ، ومقامه بالمزار العالميّ..
وجاءت الرّسائل من بلدان عديدة من حوالى 133 بلدًا راسلت الدَّير طالبةً البركات وأخبرت عن العجائب لديها بشفاعة عبد الله الأب شربل..
راهبٌ عاش بالقداسة فحوّل ديره إلى سماء تقطنه الملائكة..سَكِرَ الأب شربل في حياته بالله، فأضحى في مماته علامة الملكوت على أرضنا، معلنًا بشارة الخلاص بإبن الله، يسوع فادي الإنسان “المطلوب الأوحد”.
بعد سبعين سنة ونيِّف على “ظاهرة” سنة 1950، أصبح قدّيس لبنان شربل عابرًا للقارّات و”ظاهرة عالميَّة”، وحاضرًا في المسكونة قاطبة، وهو يُمثِّل وجه لبنان القداسة، وصورة الرَّهبانيَّة اللُّبنانيَّة المارونيَّة الـمُثلى والأجلى..
لِنَقتدِ بالقدّيس شربل في ٱتباعه المسيح، ولنَحْيَا على مثاله في حبّ الله مردِّدين مع القدّيس بولس “مَن يَفصلنا عن محبّة المسيح” (روم 8/ 35)...يا مار شربل صلّي لأجلنا.