اهلا من يعرف ترشيحا لا يمكنه إلا أن يخبر كم كانت هذه القرية واحدةً من أجمل القرى التي يمكن أن تلمحها عين، فالقرية الوادعة التي تقع على "جبل المجاهد"، والتي يعني اسمها بالكنعانية "جبل الشيح"، تقع إلى شمال مدينة عكّا، مبتعدة عنها 18 كلم، مرتفعةً في نفس الوقت 615 متراً ما يعطيها طقساً بارداً بعض الشيء في الشتاء، لكنه معتدلٌ للغاية صيفاً.
ترشيحا موغلةٌ في القدم، فهي موجودةٌ منذ العهد الروماني حيث كانت تقع فيها قرية "جعتون" الرومانية، ووجد فيها أكثر من معبد روماني يعود إلى 3500 عامٍ خلت. في المقاومة، كانت ترشيحا آخر القرى الفلسطينية التي احتلت إبان نكبة العام 1948، حيث احتلت في العام 1950، ولم تسقط قبلاً إذ إن مقاومة رجالها الشجعان بقيت حتى آخر رمق.
زرعت ترشيحا الأشجار المثمرة والزيتون كما العنب والتين. وقد عرف عن سكانها ذكاؤهم الشديد وولعهم بالعلم (حتى أن نسبة القراءة والكتابة في ثلاثينيات القرن الماضي بلغت في القرية 70 في المئة بحسب إحصائيات بريطانية)، وخصوصاً في المرحلة التي تلت التهجير والنكبة، إذ إن أعلى نسبة من المتعلمين في الوسط الفلسطيني هي من ترشيحا، وقد بلغت في وقت ما (إبان تسعينيات القرن الماضي) قرابة 98 بالمئة من سكانها، واحتلت المرتبة الأولى بين القرى الفلسطينية الأخرى (بحسب إحصائية لمنظمة إبرين الألمانية أجرتها في مخيمات العائدين الفلسطينين في لبنان، سوريا، والأردن).
كانت ترشيحا مركزاً للصناعيين والفنيين وأصحاب الحرف والمهن كونها "مركز الجليل"، فعرفت ازدهاراً اقتصادياً كبيراً، فهي تقع في المنتصف بين عكا وصفد. وقد كان في ترشيحا يومذاك "خبراء" في تصليح "اللوكس والبريموس" (البريموس هو قنديل الكاز القديم واللوكس هو نوع من أنواع الإضاءة تستخدم فيه مادة السبيرتو) خصوصاً إذا ما علمنا بأن الناس كانوا يأتون متوافدين لتصليح أدوات الإضاءة تلك التي كانت "حديثة العهد" كما أنها كانت "مرتفعة الثمن" آنذاك.
كان في ترشيحا سوقٌ كبير يسمى سوق "الخميس" كان الناس يتوافدون إليه من جميع الأرجاء. وكان تجار ومزارعو بنت جبيل يأتون إلى سوق ترشيحا بشكلٍ دائمٍ فخلق ذلك نوعاً من العلاقات الاجتماعية والمصاهرة بين ترشيحا والقرى اللبنانية.
عرفت ترشيحا بحسها الوطني المرتفع إذ إن مدارس القرية كانت تصر (حتى إبان الاحتلال الإنكليزي) على غناء نشيد "بلاد العرب أوطاني" كل صباح كنشيدٍ وطني، الأمر الذي كان يتسبب بمشاكل دائمة مع المحتل الإنكليزي (أو قبله مع الأتراك)؛ أضف إلى ذلك أن كون ترشيحا مركزاً للقضاء، جعل الثوار يتمركزون فيها، وكذلك الإنكليز.
ترشيحا قبل النكبة
كان قائد الثوار يدعى أحمد علي إبراهيم، كان الناس يحبونه بشدة ويحترمونه، وبحسب معاصريه كان رجلاً شجاعاً ومجاهداً بكل ما تحويه الكلمة من معنى. وقد وصل به الأمر إلى حد اختطاف ضابط إنكليزي يدعى "جيمس" (بحسب ما يذكره أهل القرية) وبقي مختطفاً لساعاتٍ طوال حتى ألقاه المجاهدون أخيراً في النهر (لأنهم لم يقدروا على ابقائه خفياً) ولم يعرف الضابط المذكور من خطفه ولا أين خطف، وذلك لحرفتهم ومهاراتهم المرتفعة. كان الناس حال رؤيتهم للجنود الإنكليز يبدؤون بالمناداة: "غيمت الدنيا" في إشارةٍ متفقٍ عليها للفدائيين والمجاهدين أن يخفوا أسلحتهم ويختبئوا.
عند احتلال القرية في العام 1948 قام الصهاينة بمجزرةٍ كبيرة فيها حيث قصفت طائرات تابعة لهم الجامع، فاستشهد 18 شخصاً على الفور، بعد ذلك بدأوا بهجومٍ كبير على القرية (خصوصاً بعد سقوط قرية الكابري المجاورة والمجزرة التي حصلت هناك) ساعتها لم يكن هناك مقاتلون كثر في القرية، ما أسقطها بيد الصهاينة. لكن ذلك لم يمنع أهلها من العودة إليها بعد خمسة أيام من احتلالها، وبلغ عدد العائدين إليها آنذاك حوالي 1000 شخص، فضلاً عن قرابة 500 لم يتركوها أصلاً. وقد أحضر الصهاينة إلى القرية يهوداً من رومانيا حيث وعدهم الصهاينة بأنهم سيأخذون "ذهباً" مقابل قدومهم إلى فلسطين، وأسكنوهم في بعض البيوت التي لم يكن فيها سكانها، فضلاً عن اخراجهم لبعض السكان الأصليين من بيوتهم وهم بداخلها ليسكنوا رومانيين مكانها. وبقي الرومانيون في تلك البيوت حتى بنيت مُغتصبتا معلوت ومعونا فانتقل إليهما اليهود الرومانيون نهائياً.
بقي أهل ترشيحا مقاومين شرسين للاحتلال الصهيوني بعد ذلك، وبقيت "جيوب" المقاومة تنشط في القرية، واشتهرت إحدى النساء المقاومات وتدعى أم ركاد من عائلة "كايد" التي كانت "مقاومةً" على طريقتها، فكانت تذهب إلى لبنان، والقرى التي تهجر إليها أهل ترشيحا، وتعيدهم إليها عبر "طرقٍ تعرفها جيداً"، فقد كان زوجها يعمل في "التهريب" في السابق قبل استشهاده، فأخذت مكانه ولكن بإعادة أبناء القرية إلى قريتهم. وقد عملت أم ركاد مقاومةً بهذا الشكل حتى وافتها المنية.