العزيز محمود شقير: هو يوم غير عادي، صباح الخامس عشر من هذا الشهر، اليوم الذي بلغتَ فيه الثمانين. يوم تحدثنا معاً بشأنه في الماضي أكثر من مرة، لم يكن هناك وباء، ولم يكن هناك كابوس مطبق على قلب العالم، كنا نتحدث خارج هذه التراجيديا البشرية الكبرى عن يوم قادم، وأنت تعلن أنك ستتخفف من أشياء كثيرة على عتبته، وحين قرأتُ ما كتبتَه على صفحتك صباح الثمانين، وإعلانك أنك لن تعيد ما قاله زهير بن أبي سلمى: «سَئمتُ تكاليفَ الحياةِ ومَنْ يَعشْ/ ثَمانينَ حوْلًا لا أبا لكَ يَسْأمِ» أدركت أنك لا تنوي التخفّف من أي شيء، أدركت أنك تواصل الطريق بالهمّة نفسها، وبالجمال نفسه، وبالعناد الأصيل، فما أنت زهير، بل ذلك الفلسطيني ابن القدس، الذي يأبى أن يسأم، ويأبى أن يستريح، ويأبى أن يرفع راية العمر معلناً تعبه، وإن كان يحق له ذلك إن أراد.
في حوارك صبيحة عيد ميلادك مع «أخبار البلد» تقول: «ما زلتُ برغم معايشتي للقدس طوال السنوات الماضية (إلا في فترة العيش في المنفى القسري)؛ ما زلت أراها بعين الطفل الذي دخلها أول مرة عام 1945 وأنبهر بكل شيء فيها من بشر وبنايات وأماكن مقدسة وحوانيت وسلع وألعاب وسيارات وشوارع وأسواق، وما زال هذا الطفل الذي يعيش في داخلي منبهراً بجمالها، محبّاً لها، مشدوداً إلى ما فيها من قداسة وفرادة وتاريخ، ومن قدرة فذة على الصمود في وجه الغزاة وقهرهم مهما عربدوا ومهما استبدوا».
كنتُ حريصاً على أن أتحدث معك في ذلك المساء، باحثاً عن ضحكة ذلك الطفل الذي بلغ الثمانين، تلك الضحكة التي من القلب، التي منحتني دائماً الكثير من الأمل والكثير من الثقة، في أننا قادرون على الضحك، قادرون على السخرية، وبخاصة حين نتحدث عن الاحتلال؛ وكل احتلال قبيح، ليس عندنا فقط، بل في كلّ مكان، ففي وجوده دائماً شيء عميق من جوهر سخريات القدر، وإذا أراد الإنسان أن يواصل القتال دون أن ييأس، فليس هنالك وسيلة أفضل من أن يرى المُحتلَّ خطأ مطبعيّاً فاحشاً في كتاب الزمن.
كنت أريد أن أسألك: هل تعرف كم عدد المعارك التي انتصرتَ فيها كي تبلغ الثمانين؟ وكم من موت قهرتَ، لتمنحك الحياة تاجها هذا؟
ضحكنا من القلب، وهذا أمر ضروري، لكي نرى العالم يتفتح في الثمانين كما تفتّح في كل ما قبلها، فقد حُشرنا أفراداً وشعباً في زاوية كان علينا أن نبلغ فيها الثمانين منذ عامنا الأول، لكي نشيخ ونسأم، ونعلن استسلامنا لهذا الخراب الممتد؛ من زمن الخيانات المستترة، إلى زمن الخيانات المعلنة.
من الرائع أيها الغالي، أن أراك خارج بذخ السّأم الذي يُبتلى فيه البشر في أي مكان على وجه البسيطة، فالسأم لم يُخلق لنا، لم يُخلق لك.
ذات يوم كتبتُ مقالاً هنا عن عبقرية الشيخوخة، عن أولئك الذين يقدّمون لنا مشاريع فنية وهم على أعتاب الثمانين والتسعين، بتجدّد يغار منه الشباب، في كتبهم وأفلامهم وفنهم، بجرأة فنية عالية، وبطزاجة يُحسَدون عليها. اسمح لي أن أعدِّل عنوان مقالي ليكون «عبقرية الطفولة في الثمانين». فقد فاتني أن كل من خسر ذلك الطفل العظيم في داخله، لم يهرم إبداعيّاً وحسب، بل إنسانيّاً أيضاً.
أتذكَّرُ حديثاً لي مع الكبير إحسان عباس، ومن لم يعرف ذلك الطفل في داخل إحسان عباس لم يعرف أجمل ما فيه. سألته: لماذا نرى كتّاباً تتزايد خبراتهم وتجاربهم وثقافتهم، لكنهم يكتبون أعمالاً أقلّ أهمية من تلك التي كتبوها أيام شبابهم؟ في ذلك المساء قال لي: إنها الجمرة التي خَبَتْ فيهم.
الجمرة أيها الغالي هي ذلك الطفل، ولعلّي أضيف، ذلك الضمير، وجماليات الشرف، والقدرة على الحب، ودائماً كنت ضميراً ومُحبّاً.
أتذكّر ذلك اليوم، قبل أربعين عاماً، أو أكثر بقليل، حين زرتكَ في مكتبك في جريدة «الرأي» الأردنية، مع العزيز يوسف عبد العزيز. يومها استقبلتَنا بمحبة نادرة. ومنذ ذلك اليوم لم تنقطع علاقتنا، ومنذ ذلك اليوم بقيتَ تدهشنا: في القصة القصيرة جدّاً التي حضرتْ في «طقوس للمرأة الشقية» تلك التي اقتبست أجمل ما في روح الشعر، وأكثف ما في الحكاية، تألقتَ، وفاجأتنا، حتى نحن الشعراء، كم من الشعر في هذا الشكل الفني الذي رسّخته في ستّ مجموعات أخرى، حتى بتَّ الأستاذ العربي لهذا النوع دون منازع، وتفاجئنا مرة أخرى بمجموعتيك الرائعتين: صورة شاكيرا، وابنة خالتي كوندوليزا، مُفتتحاً بهما أسلوباً متخيّلاً ساخراً لا مثيل له في القصة القصيرة الفلسطينية، والعربية، وحين ستمضي إلى الرواية ستمنحنا ثلاثية كان مطلعها «فرس العائلة» ذلك العمل المدهش الذي سيحملنا إلى مساحة مختلفة بأسطوريتها وعجائبيتها وسحريّة أجوائها.
يمكن أن أتحدث هنا عن سيرتك في أكثر من كتاب، وسيرة مدينة قلبك، القدس، وكتبك المكرسة لها، كتبك للأطفال، ما أنجزت من مسلسلات، مدركاً أن مآسي العالم كلها وسطوته لم تستطع أن تجبر ذلك الطفل الذي فيك على أن يُغلق عينيه.
في ذلك اليوم الذي ودّعتنا فيه، قبل 27 عاماً، عائداً إلى القدس، بعد سنوات من الإبعاد عن وطنك أعقبتْ سجنك، كنا نترقّب جديدك. وقد كان الغد الفلسطيني المقبل مجهولاً وغامضاً ومائعاً ومضللاً كاتفاقيات أوسلو نفسها. ولم يمر كثير من الوقت كي يُسجّل لك أنك أكثر الكتاب العائدين عطاء ومواصلة للتجدّد، كبير وأنت تترفع عن كل مكسب، محتضناً للمواهب الجديدة بصبر وصفاء، ومحتضناً كتابات أسرانا في سجون العنصرية كما لم يحتضنها أحد.
كان بودي أن أقول الكثير، لكنني سأختتم هنا بأن أعلن اعتزازي بصداقتك النادرة التي تمنح المرء الكثير من السلام الداخلي، وكم هو فقير من لم يعش مثلها، وأُبدي سعادتي بحديثنا مساء الاثنين الماضي الذي اختتمناه بضحكتين عاليتين قادرتين على أن تقطعا نهر الأردن، شرقاً وغرباً، من عمّان إلى القدس، ومن القدس إلى عمّان، رغم ليل الاحتلال البغيض، وسعادتي أن أسمعك تخبرني بفرح أنك وجدتَ ذلك الإيقاع الذي كنت تبحث عنه، للجزء الثاني من سيرتك الذاتية. الإيقاع الذي هو: موسيقى العمل ورقصته وحيويته وانطلاقه وبهجة الطفل فيه.
وبعـــد: أيها الرائع الذي أضاء أرواحنا بجماله وإبداعه وصفائه واخضراره، أيها الفلسطيني المقدسي المُتّفق عليه كزيتونة، دمتَ عالياً.