
















اهلا ما كنتُ أدري...
عفيفة مخول خميسة_ معليا
أكانونُ يا أوّل بيت في الزمان يسكُنني بيتَ شِعرٍ حريريّ المبسم... فصعدتُ أدراجكَ أُقصقص لك الحروف من أطراف شَعري! وسكّنتُكَ حِجْري مع أوّل نغمة سمّعتها صوتي بدمجة صوفيّة، وما كنتُ أدري أنّكَ بعض تضاريس حكاية محفورة في ثنيات سِفري... وأنّني مكان سيغرَس ناحية من غابة تخرّمها النسمات رشقاتٍ وتمضي، لتعودني رياحًا تتناقلها الحياة ألوانًا تزهّر على ضفاف عمري... وكم فرحتُ بكَ تدرج بين سفوح أيامي وتلالها تمتصّ صداها هوًى يشقّ تحت أجنحة روحي ألف معبرٍ لهبّات عطري! وكم حلمتُ أن تعودني مواسم لمسٍ وهمسٍ يخضِّران نفسي، فأفوح رشّاش عَرفٍ إن لفّني زنّار نار لا يبصر خصري!
فما كنتُ سوى حلم خديج لا يدري أنّ العالم ميدان سباق في رياضة العهر! وأنّه سيرى المتبارين يتقاذفون جماجم الحياة حجارةَ زهر، ويستعرضون مهارة القفز فوق حواجز القدَر! فقد أدركتُ الزمان طاغية متجاهلًا أنّه ابن فجر أخوه صبح يمدّ يده على العصر لصًّا، ويسطو على الليل ليدمل فيه شروق فكري، ناسيًا أنّي عليه عصيّة، وإن كنتُ بنت عصري! وأنّ لي في أعالي الجبال رياحًا تنفخ لاآتها في النفس نعَماتٍ تموج على صفحة نهري، وتسري هدير ورّاقة لا تؤخذ بالنهر... ولم تمكّن من شرائي بغمزة قلم يكحّل عين نثري؟!
فحسبي من الثراء، كانونُ، أنّكَ الغيمة التي تجلّت في سمائي عروسًا، وتمشّت نحو شبّاكِ فجري رعدةً روت روحي أيكة أفياء، لعبت الريح في جنباتها لعبَ النسيم في أوردة الوعر... ومشيتُ وصبحُ الحياة حلم فتاة خيّالة تجري خلف سراب من الطهر، ولم تدرِ أنّها تدوّر الزمان في معصمها ساعة رمل! ولم تلحظ في رسم حدود الواحة إشاراتٍ ضوئيّة تحذّر الهزار من مجاورة الصّقر... وكيف أدري ولم أقرأ في أطلسي خطوط الدلّ على الشقوق المزروعة ألغامًا تحت مفارق كلّ كتاب ودفتر؟!
في منتصف الطريق تعرّفتُ على حدسي، وكان بيننا سجال؛ وقد زعم أنّه كان منذ البدء يدري أنّ كبير أحلامي بيت أسير وطن مضرّج بالدماء، مذبوح ذبْحَ الحلال؛ من النحر للنحر! ولم أُصدّق هذا... وكيف أُصدّق وبيتي فيه كانون المرنّم راكعًا يصلّي على حافّة كلّ موسم هدنة بين المدّ والجزر!؟ وتنافرنا... وعمّرنا طابقًا فوق طابق، وكلانا جاهل موجبات حشر البيت وحَجْري!
فلو كنتُ أعلم أنّ كأسي مرّة لحلّيتُها بعصرة من عناقيد كرمتنا الرضيّة، أو قطّرتُ زجاجة عرق من جبين أبي صاحبِ الشمس والقمر، وسكبتُ فوقها قطرة ندًى من عين أُمي، وهي مرآة نبع رائق بمساحة البدر! ولو كنتُ أُدرك أنّها قد أعدّتني للفطور كِسرة، وللعشاء سُميْكة مشويّة فوق عود يتشتش وتري، لما تبرّمتُ، لما أشحتُ... وما صممتُ أُذني عن صمت تلكم الصوَر!
وعذري، يا فؤاد، أنّني ما كنتُ قد أبصرتُ بعدُ البعد بين تغريد كناري ونعيق غراب يرخّم الحمام على بيض من الصخر! فلو كنتُ أدري، لاستغبتُ روحي ساعة، وأعلنتُ على الله عصياني، فلا يقف على الحياد حين تهوج الرياح الغربيّة في أرضي رقصًا شرقيًّا فوق سبائك التبر الأحمر... أوليس صانع ميزان العدل بين البرايا؟! فلماذا لا يسيّر سفُن السلام في بحرنا قبل نهاية الدهر؟ والتجمتُ، وعشتُ أُمنية رضيعة تهرَم جاهلة أسباب سقوط عصا الحقّ من يد القدير عليِّ القدْر!!
وهكذا، بين جهلي وعلمي، شكّي ويقيني كبرتُ، يا كانونُ سَكوتًا، أُحاذر النار تحرق كوخي، والطوفان يُغرق قصري!