
















اهلا
سمعتها، قلتُ تحدّثني. فليس في المكان حيّ سوانا. انصتُّ. تحسّستُ الأطراف... لم تعرني التفاتة! حدّقت فيما لا أرى؛ مَن تُراها تحدّث؟ هذه الملامح المبريّة تثير فضولي، وأمرها يستفزّ حشريّتي! تقدّمتُ منها خطوة، خطوتين، ثلاثًا، ولم يرفّ لها جفن؛ لا ردّة فعل أبدت، أو من مكانها تزحزحت!
نسمة عصريّة ملساء تكشف عن كفّ رقيقة، وتزيح عن الوجه قناعًا من الندى المغبرّ. يا لها من طفلة تفيض عذوبة وبراءة!
حقيبة متقاعدة متوارية عن الضجيج، في عينيها قلق عميق يشي بأنّها مضربة عن النوم! أتُراها تخاف مواجهة حلم يحرّم عليها دخول مسرحه!؟ صعقني هذا الإحساس؛ فقد تخيّلتني واقفة وجهًا لوجه أمام مشهد للقمع بالإيحاء!
تماديتُ وتسلّلتُ لجيبها كفًّا مرتعشة تعثّرت بدفتر! أين حاشيته؟! هل يكون محكومًا عليه بالسجن الانفراديّ! ما أحوجني لمثل هذه اللقية! فقد أتمكّن بها من فضّ اللثام عن حكاية صامتة مثيرة! تناولتها، ولم أجد لي مقعدًا غير تلك الصخرة الشائكة الرابضة عند سياج كرمنا العالي. تخدّرتُ عن الإحساس بأذى الأشواك الصلبة، وهوامش الدفتر مزروعة أزهارًا ملوّنة كلّ بتلة منها تحمل على رأسها شوكة! النمل يستعمرها بدعوة من شريحة خبز، ويدبّ صاعدًا زندي!
على وجه الدفتر لاصقة تحمل اسمها محاطًا بالقُبل. عرفتها! وكنت قد عرفتها من قبلُ، من خلال زميلها (من أصدقاء الأُسرة)، وقد حكى الكثير عن مهارتها بالرسم... بنت الصفّ الثاني ترسم قصصًا لا تخلو منها صفحة! زملاؤها يلتفّون حولها معجبين، بينما المدرّسة لا تعيرها أيّ اهتمام، بل تستدير لها وتخاطبها بسبّابة بربريّة النبرة: كفاكِ ثرثرة مع الألوان! ركّزي بالكلام!
كنتُ أظنّ أنّ هذا الصبي يختلق مادة تصلح لصناعة خبر. ولم يكن هذا صحيحًا. فهي بحدّ ذاتها خبر مغلّف برسالة من الغلاف للغلاف. رسالة كتبتها حقيبة صغيرة محميّة بعسكر من النمل، مطروحة بعيدًا عن خطوط النفايات! ويزداد يقيني يقينًا بأنّ القهر الصامت أشدّ فتكًا بالنفس من العنف المعلن!
وأتعقّب "حلب". وتكبر موشّحة لا تقطع أوتارها سبّابة جاهلة أنّ للألوان نغمات لا يسمعها إلّا المبدعون! "حلب" الشجن المرهف ترسمني دمعة تروي حكاية الأشواك التي تدفّعها ضريبة موهبتها مرتينّ!!