اهلا وكبرنا عيونًا نيليةً لا تنام والوطن ملذوع تزحف أوجاعه نحو العظام، وسهرنا اَذانًا كاد أن يبريها الانتظار. وتقرع من الشمال أجراس القدس... وتُرفرف فوق أسرّتنا فيروزةٌ، تحُطّ على مساطبنا وطء ملاك يضحك علينا بطير حمام السلام... فننام مع أحلام تجايلنا وتلعب معنا في كلِّ مكان... فنُطلق أجنحتنا غير عالمين أن زائرتنا تضع الدعامة الأولى في كاسر الأمواج العظيم، ذاك الذي سيحول دون غرقنا في العاصفة النيلية.
وتعاود أحلامنا الحاجة للنوم. فننام ! وتعود العرّابة فجرًا مفرود الأجنحة تروّج للصُبح برقة لعلها تنهض جُلّنار... وتغني ! وإذ كُلُنا جلّنار يصطفُ على جوانب الصبح معشّقًا بالحجر الكريم. فلقد ضربت الفيروزة ريشتها مسحًا رقيقًا كان كافيًا لسحبنا وجرّنا إلى قفصٍ معرّش بالريش، منه سنطير فوق التلال والجبال. ونزور الرابيات والظلال والسواقي... ويُضوي القنديل عبيوت كل الناس...ومزارع كل الناس...
هذا ترف. لكنه لن يجعلنا نستدير لمن نضجت عواطفنا فيها (وإن قبل الأوان). فمصر المنيعة باقية في الوجدان محطة الإثراء الكبرى لوعينا القومي ومداركنا العامة. وقد توحّد لونها الثقافي في جلودنا فرحًا بتحديها جبروت التاريخ. فهللنا لإنجازاتها ضيوفًا أكسبتهم قوّة ومناعة لم يسعوا لها. فما استماتوا للإقامة الدائمة في بيت الأدب الأول/ بيت مصر المعلّق أبدًا بين ذلكما الجبارين: الصحراء والماء. وما عاد منّا ليشرب من مية النيل إلّا لأنه الحنين لبيت الكرم الأصيل. نزور ولا نترك خلفنا أدنى رغبة بامتلاك وتر أو مقعد على جندول تاريخها شاغل الدنيا. بينما لا تفارقنا الرغبة بالقفز فوق صخور سوريتنا حيث منذ البدء نمونا رفاقًا لجدائها. لكننا لم نتبلبل ولا استبد فينا ما يُفسد للود قضية بين العمق النيلي والمدى الأخضر المفتوح.
في ستينيات القرن الماضي/قرن المسوحات السياسية والثقافية شبه النهائية استُرقت من يد التاريخ ريشة ليرسم الشرق بها خارطة منازله الأدبية والفنية على مذاقه. ويتزاوج في هياكلنا اللونان: النيلي والأخضر زواجًا لم يتم بالغصيبة..! ليُنتج تركيزًا أصيلًا. وحسبنا من هذا عاملًا حافظ على توازننا وحمى عواطفنا من التمزق في زمن تمزقات التاريخ الحديث. هذه الإحاطة من القطب الشمالي أمّنت للمحبة سكنًا دائمًا بين سمانا وأرضنا لنحيا الحُبّ فرحًا والخيال سماوي التموجات، ولكن... لبنان لا يُختزل بصفحة توركيزية.
كان الجليل المفتون تاريخيًا بالهوى الشمالي العليل يوُسّع لنسماته مسارب تتسلل منها دغدغات حفيفه... وما كان أحبَّ على قلبه أن تسكن بين جلده وردائه وتستقر في حجراته على اختلاف مساحاتها وشواغلها... وما كان لعذب مائه بتكراره إلّا أن يؤثر في صخرنا كلَّ التأثير.
لبنان الشاعر الأخضر يتحوّل إلى صيدلية الشرق الحديثة. لبنان قلعة هذا، قلعة التاريخ ولؤلؤته ينتج سلة غذائية ثقافية متكاملة تحتوي كل مركبات الوقاية من الكسل، أو الفشل الروحي والفكري... كما الندوبات النفسية والعاطفية. فيكون هنا ضابط الإيقاع المرهف البارع وهناك موّزع اَلات العزف المحترف. وتُشرّع البيوت له والصدور وقد هبَّ ريحًا شمالية طريّة تعرض للحُبِّ أقمشة مطرّزة برسومات وألوان مبهجة. وتظهر في ألوان الطيف عرائس تحبو نحو أقلامنا الصغيرة والفتية والشابة على حدٍّ سواء. وتتحسس خامات طباعنا على عديدها وبساطتها وتفاوت أعمارها.
ويُسرّب العريس من هذه الرزمة روائح خموره فتنبعث تباعًا في كل الاتجاهات أبياتًا مطعمة بالحيوية وسعة الاَفاق والتلقائية من اَن. ويختمر الحُب بيننا بشوشًا منكهًا بخفة الظل فرحًا مرحًا لا يتقلب على جمر النار ولا تُقعده لوعة أو حرمانٌ أو كربة أو كتمان.
كان لتشابك كفي اصابع هذه الصيدلي الشاعرة والعازفة، كلّ الفضل على تزنير جدر بيوتنا والعمل على هزهزة انفعالاتنا الشبابية هزّ معلم فلاح جبليّ متمرس. وتمكّنا من صعود قمم وديع الصافي بدون أي جهد، وكأن الدرب نألفها قبل لقائنا فرسانه مارون كرم، مارون عبود، السبعلي و ... وسهّل علينا الوصول إلى مرتفعات صباح الميجانا والزُلف والتدرج منها مع سيول فيروز إلى قيعان النفس حيث تمايلنا معها أجسادًا فطرت على اللغة البسيطة المتناغمة مع إيقاع ساعات الضياع.
ليس هذا تسللًا. إنه زحف جماعي من الشمال يلتقي مع الحالة المصرية ليحمي بيتنا الزجاجي من راجمات الغزو الثقافي، ويسكن في أذن الجليل والربوع السورية طنين القفران اللبنانية تغريدًا وتجويدًا وترنيمًا لا يتوقف على مدار الفصول. فكان لغزونا بالكلمة أن زادنا ثراء على ثراء. وتسييجنا بالاوتار والحناجر ان حمل اعمارنا مسؤولية الجمال والاناقة. ونحن إن أكلنا وشبعنا لا نتخم ، لكننا نشكر . وإن شربنا وارتوينا لا نعوّم، لكننا للنبع ننحني.