















اهلا في أولى زياراته الرسولية إلى الخارج، وجّه قداسة البابا لاوُن الرابع عشر من أنقرة نداءً قويًا إلى العالم لرفض الانقسام وبناء جسور الحوار والأخوّة والسلام، داعيًا تركيا إلى عيش رسالتها كجسر بين الثقافات والأديان والقارات.
فاستهلّ البابا زيارته الرسمية في تركيا بلقاء في القصر الرئاسي، تلاه لقاء موسّع في "مكتبة الأمة" في أنقرة، بحضور الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، ومسؤولين في الدولة، وممثلين عن المجتمع المدني، وأعضاء السلك الدبلوماسي، في أول خطاب له خلال هذه الزيارة الرسولية.
وصف البابا تركيا بأنها "أرض مرتبطة ارتباطًا وثيقًا ببدايات المسيحية"، لكنّها في الوقت نفسه موطن لأبناء إبراهيم جميعًا – من مسلمين ومسيحيين ويهود – مدعوّين إلى رؤية الاختلاف لا كسبب للانقسام، بل كطريق إلى الأخوّة. وأشاد بجمالها الطبيعي وغناها الثقافي وتنوّع تقاليدها، معتبرًا أن الحضارة البشرية تزدهر حيث يلتقي الأجيال والأفكار والتقاليد، ومؤكدًا أن "التنوّع ليس تهديدًا، بل ضمانة لحيوية المجتمع، أما التطابق فإفقار".
وتوقّف قداسته عند الشعار الرمزي للزيارة، الذي يجسّده جسر يعبر مضيق الدردنيل، معتبراً أن الجسر يختصر هوية تركيا ورسالتها: جسر بين آسيا وأوروبا، وبين الشرق والغرب، وبين التقاليد والحداثة، وبين الاختلاف والوحدة. وحذّر في هذا السياق من مناخ الاستقطاب والمواقف المتطرفة الذي يهدّد بتفتيت المجتمعات، مشيرًا إلى أن المسيحيين في تركيا مستعدّون دائمًا للمساهمة في وحدة البلاد، مستذكرًا محبة القديس يوحنا الثالث والعشرين لتركيا ودعوته الكاثوليك إلى رفض الانغلاق وعيش "ثقافة اللقاء"، وهي كلمات لا تزال – كما قال – شديدة الراهنية اليوم.
وانطلاقًا من الإنجيل، تحدّث البابا عن الله "البنّاء للجسور" الذي فتح طريقًا بين السماء والأرض، لكي تتعلّم القلوب أن تعكس رحمته. وشدّد على أن العدالة والرحمة مدعوّتان إلى كسر منطق السيطرة، وأن التضامن والشفقة يجب أن يكونا المعيار الحقيقي لأي مشروع تنموي. وحذّر من تقدّم تكنولوجي منفصل عن الأخلاق، مذكّرًا بأن حتى الذكاء الاصطناعي يعكس في النهاية خيارات البشر ومسؤولياتهم: "العمليات ليست عمل الآلات بل عمل الإنسان"، داعيًا القادة إلى العمل المشترك "لترميم ما أصاب وحدة العائلة البشرية من أذى".
وتناول البابا مكانة العائلة في المجتمع التركي، واصفًا إياها بأنها "النواة الأولى للحياة الاجتماعية"، حيث يتعلّم الإنسان أن "لا وجود لـ«أنا» من دون «أنت»". وأشاد بالجهود المبذولة لتعزيز دور العائلة، محذّرًا في المقابل من كل نزعة إلى الانغلاق أو إسكات الأصوات داخل البيت الواحد، ومن ثقافة استهلاكية تسوّق للوحدة والعزلة. ودعا إلى "ثقافة تُقدّر المودّة والعلاقة الشخصية"، تحترم الحب الزوجي وتنفتح على عطيّة الحياة، وتكرّم في الوقت نفسه "الدور الجوهري للمرأة" التي تزداد حضورًا في ميادين المعرفة والمهن والخدمة العامة والثقافة.
وعلى الصعيد الجيوسياسي، أعرب الحبر الأعظم عن أمله في أن تواصل تركيا القيام بدور "مصدر استقرار وتقارب بين الشعوب"، مستعيدًا زيارات البابوات بولس السادس، ويوحنا بولس الثاني، وبندكتس السادس عشر، وفرانسيس، ومشيرًا إلى أن زيارته الحالية، المرتبطة بذكرى مجمع نيقية، تعكس الحاجة الدائمة إلى الحوار واللقاء من أجل وحدة الإيمان وخدمة السلام. وفي زمن "تتوالى فيه النزاعات" وتلوح ملامح "حرب عالمية ثالثة مجزّأة"، عبّر البابا عن أسفه لاستثمار الطاقات في ديناميات التدمير بدل توجيهها نحو السلام، ومكافحة الجوع، وحماية الخليقة، وضمان التعليم والصحة للجميع.
وأكد أن الكرسي الرسولي لا يأتي "إلا بقوّته الروحية والأخلاقية"، لكنه يحمل رغبة ثابتة في السير مع كل الدول الساعية إلى تنمية متكاملة لكل إنسان وكل إنسان. وختم بالقول: "لنَسِر معًا، في الحقيقة والصداقة، متّكلين بتواضع على عون الله".
وفي لفتة رمزية، قدّم البابا خلال الزيارة البروتوكولية للرئيس أردوغان لوحة تحمل وسامًا خاصًا صُنع لهذه الرحلة الرسولية، أبدعته الفنانة أماليا ميستيكيلي، يجمع بين القديس شربل والقديس أندراوس، وإلى جانبهما رموز تركيا ولبنان: سيدة حريصا، وأرزة لبنان، وجامع السلطان أحمد إلى جانب برج جرس مسيحي. ويحمل الوسام عبارة Turciam et Libanum Visit وإشارة إلى الذكرى المئوية السابعة عشرة لمجمع نيقية، في تجسيد واضح لنداء البابا إلى بناء جسور بين العوالم والتقاليد.